علي شمدين
ليس بخاف على أيّ متابع للشأن السوري حجم الاحتقان الذي يعيشه اليوم أبناء الشعب السوري بمختلف فئاته ومكوناته القومية والدينية، الذين خرجوا إلى الشوارع بصدور عارية قبل عقد ونصف من الزمن من أجل نيل حريتهم وصون كرامتهم. وقد واجهوا خلالها أقسى أساليب القمع والقهر والاستبداد، وعانوا أبشع أشكال القتل والتشرد والحرمان، ولكنهم ظلوا يحلمون باليوم الذي سيسقط فيه الطاغية بشار الأسد الذي حكم ووالده المقبور البلاد بيد من حديد لأكثر من نصف قرن، وقد فرحوا فرحاً شديداً وهم يرون حلمهم الذي عاشوا من أجله قد تحقق في (٨/١٢/٢٠٢٤).
ولكن، لسوء الحظ، لم تدم فرحة الشعب السوري طويلاً بسقوط النظام البعثي البائد، وتبخرت أحلامه بعد أن تولى البديل الجهادي السلطة من بعده، والذي أثبت خلال ستة أشهر من حكمه بأنه ليس بأفضل من سلفه، سواء من حيث التفرد وحصر صلاحيات الحكم المطلق كلها بيد الرئيس المؤقت الذي يعتمد في شرعيته على مقولة (من يحرّر يقرّر)، أو من حيث احتكاره السلطة لصالح لون واحد لا يمثل إلّا دائرة ضيقة من الموالين لهيئة تحرير الشام التي كان اسمها مدرجاً في لوائح الإرهاب العالمية، والتي تنبذ كل ما يمت بصلة لمفاهيم الديمقراطية والفيدرالية واللامركزية التي تعتبرها دعوات انفصالية مشبوهة، ولا تمتثل لمبدأ المواطنة المتساوية والحكم المشترك الذي لا بد له أن يضم كافة المكونات القومية والدينية ويضمن حقوقها وفق دستور عصري جامع، ولعل العلامة الفارقة التي تظل تميز النظام السابق هي أنه كان يتبجح بتمثيله لما كان يسميها بـ(جبهة المقاومة)، في مواجهة القوى الخارجية التي كان يسميها بـ(جبهة الشرّ)، مستقوياً بـ(الجبهة الداخلية)، التي كان يسعى إلى حشدها واستقطابها بالترغيب والترهيب، في الوقت الذي يتصرف النظام الجديد عكس ذلك، ويحاول الاستقواء بالجبهة الخارجية ويسعي إلى إرضائها ونيل الشرعية منها بأيّ ثمن كان، في مواجهة الجبهة الداخلية التي تشكل المكونات قوامها الأساسي، ولعل الأحداث الأخيرة التي شهدتها محافظة السويداء تأتي في هذا الاتجاه مع الأسف الشديد. فإن ما شهدته محافظة السويداء خلال الأيام الماضية من الأعمال الهمجية لم تأت من فراغ، والتي تمثلت في اقتحام العشائر البدوية من الطائفة السنية بالقوة مدينة السويداء التي يشكل الدروز غالبية سكانها، وقيامها بحقد دفين بمختلف أشكال النهب والسطو والحرق والتدمير والخطف والقتل على الهوية بحق سكان المدينة من الدروز، الأمر الذي دق جرس الإنذار بأن الأوضاع باتت تشرف على اندلاع حرب طائفية قد تخرج عن السيطرة ويصبح من الصعب ضبطها فيما بعد.
فقد قامت تلك العشائر البدوية الموالية للقوات الحكومية بافتعال هذه الأوضاع الخطيرة بتاريخ (١٣/٧/٢٠٢٥)، على إثر اختطافها لشاب من الطائفة الدرزية وقيامها بتعذيبه بوحشية، الأمر الذي فجر الاحتقان الطائفي بين الجانبين، هذا الاحتقان الذي كانت قد غذته وسائل الإعلام المقربة من الإدارة المؤقتة والمحسوبة عليها، والتي بالغت في بث خطاب الكراهية والتحريض ضد المكونات الوطنية (الكرد، والعلويين، والدروز والمسيحيين.. إلخ)، وقامت بتكفيرها وتخوينها واتهامها بالإنفصالية وتقسيم البلاد لمجرد أنها كانت تطالب بالمشاركة في بناء سورية الجديدة، والتمثيل في إدارة مؤسساتها من دون تفرقة أو تمييز بسبب الانتماء القومي أو الديني، وكذلك لمجرد أنها قامت بالمطالبة باللامركزية في إدارة البلاد والتي من شأنها أن تصون الوحدة الوطنية وتحمي ألوان نسيجها الفسيفسائي، بعكس الحكم المركزي الذي مزق حتى العائلة الواحدة خلال العهد البائد، ناهيك عن تمزيقها للمكونات.
لقد بلغت تلك الأعمال المقززة ذروتها عندما بادرت مجموعات من تلك الوحوش الضارية التي تقودها غريزتها الطائفية المشبعة بروح الحقد والانتقام من أبناء الطائفة الدرزية العزل، وانتهاك قدسية رموزهم وإذلال كرامتهم أمام عدسات الكاميرات، بإقدامها على قص شوارب وجهاء الطائفة الدرزية وشيوخها، لإدراك أولئك المجرمين الذين كان البعض منهم يتقلدون على صدورهم شعار تنظيم (داعش)، بأن الشوارب ترمز لدى الطائفة الدرزية الى العزة والشموخ والكرامة، وقد هيجت هذه التصرفات الهمجية الرأي العام الحرّ وأعادته إلى ذكرى أحداث درعا التي اندلعت شرارتها في (١٥/٣/٢٠١١)، على إثر إقدام الأجهزة الأمنية على اقتلاع أظافر مجموعة من الأطفال الذين كتبوا على جدران مدرستهم ببراءة طفولية شعارات تطالب باسقاط بشار الأسد، وتقول: (جاك الدور يادكتور)، فلم تستجب تلك السلطات المسعورة لمطالب أهالي المدينة الذين تجمعوا أمام فرع الأمن السياسي وطالبوا رئيسه المدعو (عاطف نجيب)، بالإفراج عن أطفالهم. وبدلاً من أن يستجيب لمناشداتهم وتفريغ غضبهم، والمثول لتوسلاتهم بالإفراج عن أطفالهم، قام بإذلالهم أشد إذلال، ورّد عليهم بسخرية قاسية: (إنسوا بأنه لديكم أطفال.. اذهبوا وأنجبوا أطفالاً جدداً..إلخ).
لقد تباهى عاطف نجيب حينذاك بطغيانه وجبروته، وهدد أهالي درعا بقبضته الأمنية الحديدية، إلى حدّ أنه قال حينذاك: (أنا الله في درعا)، وذلك مستقوياً بصلاحياته المطلقة في إرهاب المواطنين وترويعهم، ومحتمياً بصلة القرابة التي كانت تربطه بابن خالته الطاغية بشار الأسد الذي لم يستجب هو الآخر لمطالب الأهالي الداعية إلى التحقيق العادل في تلك الأحداث المروعة، ومحاسبة المجرم الذي لقب بـ(مقتلع أظافر أطفال درعا)، وإنما اكتفى بنقله إلى مدينة أدلب ليشغل من جديد منصب رئيس فرع الأمن السياسي هناك وكأن شيئاً لم يكن، فتصاعدت موجة الاحتجاجات وتوسعت دائرتها وارتفع سقف مطالب الجماهير بعد ذلك إلى حدّ المطالبة باسقاط النظام بكافة مرتكزاته وأدواته.
لم يأخذ الخلف الدرس من السلف مع شديد الأسف رغم قساوة الدرس الذي تلقاه السلف بغروره وطغيانه تجاه ضحاياه الذين تحقق حلمهم ونمت أظافرهم من جديد، ولاشك بأن الشوارب أيضاً سوف تطول ولن تتأخر طويلاً لتلتف حول أعناق الجلادين عاجلاً أو آجلاً.
فإن التاريخ يجزم بأن الشعب (باقٍ وأعمار الطغاة قصار).
السليمانية: ٢٣/٧/٢٠٢٥