عروبة مستعارة: سوريا بين الهوية الغائبة والمصالح الحاضرة

ماهين شيخاني

مقدمة: هوية تُستعار حين تقتضي الحاجة.

في المشهد العربي المعاصر، لم تعد القومية مجرد انتماء وجداني أو مشروع سياسي ناضج، بل تحوّلت إلى بطاقة تُستخدم بحسب مقتضيات اللحظة. تارة تُستحضر لحشد الجماهير، وتارة تُركن جانبًا حين تتعارض مع المصالح الإقليمية أو الحسابات الدولية. وسوريا، اليوم، مثال صارخ على هذه الازدواجية: بلد طُرد من الحضن العربي عند أول خلاف سياسي، ثم أُعيد إليه لا حبًا ولا إيمانًا بوحدة المصير، بل لأغراض لا تخفى على أحد.

 

أولًا: هوية مفروضة ومكانة مشكوك فيها.

سوريا، منذ ولادة الدولة الحديثة، عاشت تمزقًا دائمًا بين هويتها المتنوعة وواقعها السياسي الموجَّه. ضمت أراضيها العرب والكورد والآشوريين والسريان والأرمن والشركس، لكن الخطاب الرسمي بقي حبيس “العروبة الأحادية”، التي لم تكن يومًا محل إجماع شعبي.

وبرغم كل ما بُذل لترسيخ هذا الطابع القومي، فإن علاقات سوريا الإقليمية، خصوصًا مع إيران، جعلت بعض النخب العربية تنظر إليها بشك وريبة، بل وتُشكك في “عروبتها” كلما ابتعدت عن المعسكر الخليجي أو الأميركي.

ومع اندلاع الثورة عام 2011، انهار هذا القناع. سُحبت دمشق من الجامعة العربية، وبدأت تُعامل كعبء سياسي، لا كدولة مركزية في المنطقة. لكن المفارقة أن هذه العودة التدريجية إلى “العروبة” لم تكن مصحوبة بمراجعة للمبادئ، بل مجرد ترتيب أوراق في لعبة إقليمية أكبر.

 

ثانيًا: الكورد بين الهوية الغائبة والعداء المؤسسي.

في خضم هذا السجال حول الهوية والانتماء، بقي الشعب الكوردي خارج المعادلة. رغم أنه يشكّل ثاني أكبر قومية في البلاد، لم يُمنح اعترافًا رسميًا بل عانى من التهميش لعقود طويلة: حرمان من اللغة، من التعليم، من الهوية القانونية.

ومع بداية الأزمة السورية، حاول الكورد صياغة نموذج سياسي محلي يقوم على التعددية والمشاركة والعدالة الاجتماعية. غير أن هذا النموذج، بدل أن يُحتضن، قوبل بمحاولات إجهاض شرسة، مدعومة من أطراف عربية وبتنسيق مباشر مع تركيا، فقط لأنه مشروع كوردي.

 

تمويل إعلامي ضخم خُصّص لتشويه التجربة، وتقديمها كحالة انفصالية خارجة عن السياق الوطني، في حين أن واقعها كان أبعد ما يكون عن ذلك. بدا الأمر وكأن ثمة تحالفًا غير معلن هدفه كبح أي مشروع يكرّس هوية الكورد كشعب له حق على هذه الأرض.

 

ثالثًا: المعايير المقلوبة وعدالة مغيبة.

ما يفاقم التناقض، أن أصواتًا عربية سارعت إلى التنديد بجرائم الاحتلال في فلسطين، في الوقت الذي سكتت فيه عن مأساة عفرين وسري كانيه، أو حتى شاركت في تبريرها ضمنيًّا. فالمنصات نفسها التي تسرد المآسي الفلسطينية، تتجاهل تمامًا ما يحدث في المناطق الكوردية، وكأن الضحايا درجات، والقضايا تُقاس بمدى ملاءمتها للأجندة السياسية السائدة.

تُمنح اليوم شرعية “عروبية” لسوريا بشروط المصالحة السياسية، لا بمبادئ الانتماء الحقيقي. وفي المقابل، يُمنع الكورد من مجرد طلب الاعتراف بلغتهم وتاريخهم. وبين هذا وذاك، يُخنق صوت العدالة، لا برصاص الأنظمة وحدها، بل بدبلوماسية المال والنفاق.

 

خاتمة: من يملك الحق في أن يكون؟.

المشكلة ليست في تعريف سوريا كدولة عربية أو غير عربية. المسألة الأعمق هي في الكيفية التي تُدار بها الهويات في عالم عربي لا يزال يخاف من التعددية، ويتعامل مع القوميات الأصلية كمصدر قلق دائم.

الكورد، كما غيرهم من الشعوب الأصيلة، لا يطلبون فضلًا من أحد، بل يطالبون بما يملكونه حقًا: الكرامة، الاعتراف، والشراكة العادلة. لكن طالما بقيت العروبة مفهومًا يُشهر وقت المصالح ويُنسى عند الحقوق، فإن لا سوريا ستنهض، ولا الجغرافيا ستبقى كما كانت.

الهوية لا تُفرض بالبيان السياسي، ولا تُصاغ في القمم، بل تُبنى في الميدان، بالعدل، والشراكة، والاعتراف المتبادل.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…