بوتان زيباري
في زوايا السويداء، حيث الجبل يرتفع كأنه صرخة مكتومة في وجه السماء، يُسمع دوي الرصاص، لا كنداء حرب، بل كصرخة ألمٍ طويلة تمتد من دمشق إلى حلب، ومن دير الزور إلى قامشلو. لا أحد يعلم متى بدأ هذا الدم أن ينزف، ولا من سيُغلق الجرح. لكن ما نعرفه اليوم بيقين هو أن سوريا لم تعد مجرد بلدٍ يمر بأزمة، بل أصبحت رمزًا للانكسار الإنساني، مسرحًا لعبثٍ سياسي لا ينتهي، حيث يُقتل الإنسان باسم الوطن، ويُدمر الوطن باسم الإنقاذ. كل طرف يرفع شعار العدالة، وكلهم يمارسون الظلم. كل فصيل يدّعي أنه الضحية، وكلهم يتحولون إلى جلاد.
الدم في السويداء ليس حدثًا عابرًا، ولا نتيجة صدفة، بل هو حلقة في سلسلة طويلة من التآكل الذي بدأ منذ أكثر من عقد. إنه امتدادٌ طبيعي لانهيار الدولة، ليس فقط كمؤسسة إدارية أو عسكرية، بل كفكرة. لأن الدولة الحقيقية ليست مجموعة جدران أو سواتر ترابية، ولا خطوطًا على الخريطة تُرسم وتُمسح بحسب المصالح. الدولة هي وعدٌ بالأمن، هو ضمانة العدالة، هو الشعور بأنك آمنٌ في بيتك، حرٌ في كلامك، محترمٌ في هويتك. أما في سوريا اليوم، فالدولة غائبة، وإن ظهرت، فهي تظهر بوجه قمعي، أو بوجه ميليشياوي، أو بوجه خارجي يتخفى تحت شعارات التحرير أو الوحدة.
نظام دمشق يتحدث عن بسط السيطرة، وعن استعادة الأرض، وكأن الأرض وطنٌ يمكن احتلاله ثم استرجاعه مثل قطعة أرض زراعية. لكن ماذا عن الإنسان؟ هل بسط السيطرة يعني أن تعود الأم إلى ابنها المختفي قسريًا؟ هل يعني أن يمشي المواطن في شوارع السويداء دون خوف من كمين أو تفجير؟ هل يعني أن يُحاسب القاتل، سواء كان يرتدي بذلة عسكرية أو يحمل لواء ثورة؟ لا، لأن السيادة التي تُفرض بالرصاص والاعتقالات، وتقايض فيها حقوق الناس بأوهام “الاستقرار”، ليست سيادة، بل هي احتلالٌ جديد باسم الداخل. وحين يُستخدم مصطلح “الوحدة الوطنية” بينما تُعامل المكونات السورية كقطع شطرنج في لعبة طائفية، فإن الكلمة تفقد معناها، وتتحول إلى نكتة مريرة تُروى على وقع البكاء.
أما المعارضة المسلحة، فقد فقدت منذ زمن طويل أي مشروعية تحدثت عنه يومًا. فكيف نتحدث عن تحرير، بينما تُحكم مناطقها بالخوف، وتحتكر فيها السلطة ميليشيات تعيش على الحرب؟ كيف نُصدق شعارات “العدالة” ونحن نرى من يختلف معهم في الرأي يُختطف أو يُقتل؟ الثورة، إن كانت قد بدأت يومًا كصرخة إنسانية ضد الظلم، فقد تحولت اليوم إلى ذكرى باهتة، بينما الواقع يُعيد إنتاج نفس النموذج: سلطة بالسلاح، وحقوق بالقوة، ووجودٌ مشروط بالولاء. السوريون لم يعودوا يؤمنون بخطاب النصر، لأنهم يعرفون أن النصر الحقيقي ليس في احتلال مدينة، بل في عودة طفل إلى مدرسته، في ابتسامة أم بعد سنوات من البكاء.
وفي هذا الفراغ، برز الدور الإقليمي كلاعب أساسي، لا كحلّ، بل كجزء من المشكلة. تركيا، التي دخلت باسم “حماية السنة”، حوّلت المناطق التي تسيطر عليها إلى ساحات إفقار وتجييش، حيث يُبنى النظام على تدمير المجتمع، لا على بنائه. ميليشيات تُدفع لها رواتب، ومواطنون يُجبرون على الهجرة أو الصمت. نموذجٌ يشبه كثيرًا نموذج النظام في دمشق، الفرق فقط في الشعار. أما إسرائيل، فتبقى الظل الغامض، حيث تُطلق النار وتُوقفها حسب المعادلات، بينما يُتهم الدروز بالتعامل معها، في وقت تُشير فيه التسريبات إلى أن دمشق نفسها تخوض تفاوضًا غير مباشر عبر وقف إطلاق النار. فهل هذه ازدواجية؟ أم أنها الحقيقة المرة: أن الجميع يستخدم ورقة “العدو الخارجي” لتغطية فشله الداخلي؟
في الفضاء الرقمي، تتكرر نفس الأكاذيب. النقاش يختزل إلى اتهامات بالعمالة، بالطائفة، بالعرق. أي صوت يدعو إلى التفكير العميق، إلى التساؤل، إلى النقد، يُصادر ويُوصم بأنه “ينسف الوحدة”. بينما الوحدة الحقيقية لا تُبنى بالإسكات، بل بالحوار، بالاعتراف بالآخر، بالقدرة على قول: “ربما أكون مخطئًا”. لكن في زمن السجع السياسي، والخطابات البلاغية الفارغة، لا مكان للشك، لا مكان للسؤال. هناك فقط أنا والآخر، الوطن وأنا، والعدو في كل من يختلف.
سوريا اليوم ليست دولة، بل هي فكرة قيد الموت. لكن في قلب هذا الموت، لا تزال هناك نبضات. نبضات في قلوب أولئك الذين يرفضون أن يُختزلوا إلى طائفة أو منطقة أو ولاء. نبضات في كتابات المثقفين الذين لا يزالون يكتبون رغم الخوف. نبضات في عيون الأطفال الذين يلعبون بين الأنقاض، وكأنهم يقولون: “لا تزال الحياة ممكنة”. هذه النبضات هي الأمل، لكنها لا تكفي. لأن الأمل لا يُبنى على المشاعر، بل على عقد اجتماعي جديد، على دولة لا تفرق بين مواطنيها، على عدالة لا تعرف الاستثناءات.
التقسيم لم يعد تهديدًا نظريًا، بل هو حقيقة تُفرض على الأرض، لا بقرارات دولية، بل بفعل السلاح، بالخوف، بالتمييز. لكن التقسيم ليس الحل، بل هو انتحار جماعي. لأن سوريا، كيانها الجغرافي لا يساوي شيئًا إذا لم تكن وطنًا للجميع. فالحدود التي تُرسم بالدم لا تصمد، كما أن الدول التي تُبنى على الطائفية لا تعيش. التاريخ مليء بالأمثلة، لكن لا أحد يتعلم.
السؤال الأخير، وهو الأصعب: هل يمكن أن تنهض سوريا من بين الركام؟ الجواب لا يكمن في أيدي القوى الكبرى، ولا في مؤتمرات جنيف، ولا في خطابات المسؤولين. الجواب يكمن في إرادة الشعب، في قدرته على رفض أن يكون وقودًا، في شجاعته على قول لا لكل من يحاول اختزاله. لأن سوريا الجديدة لن تُبنى بالدبابات، ولا بالبيانات الإعلامية، ولا بوعود الخارج. ستُبنى بكلمات صادقة، بمحاسبة حقيقية، بعفو لا يعني نسيان الجريمة، بل تجاوز الكراهية. ستُبنى عندما يشعر الدروزي في السويداء كما يشعر العلوي في الساحل، والكوردي في قامشلو، والسنّي في حمص، أن هذا الوطن هو بيته، وليس ساحة حرب.
سوريا ليست جثةً تنتظر التقطيع، كما يظن البعض. هي قلبٌ ما زال ينبض، وإن ببطء. والنابض لا يموت. لكنه يحتاج إلى يدٍ تُضمَد بها جراحه، لا إلى سكينٍ تزيد من نزيفه. الخيار اليوم ليس بين نظام ومعارضة، ولا بين شرق وغرب، بل بين الحياة والموت. وبين أن نكون شعبًا، أو أن نصبح مجرد رقم في سجلات النزاعات الدولية. المستقبل ليس مكتوبًا، بل هو ما نصنعه. فهل نصنع وطنًا؟ أم نواصل اللعب في مسرح الدم؟
السويد
21.07.2025