خوشناف سليمان
بين دفات مذكرات مستر همفر. الجاسوس البريطاني المزعوم في بدايات القرن الثامن عشر، ترسم ملامح مبكرة لمرحلة بدايات التدخّل الإمبراطوري في تشكيل العالم الإسلامي من الداخل. لا عبر الجيوش وحدها. بل عبر صناعة الدين على المقاس. في هذه الرواية –سواء صدقها المرء حرفيًا أم لا– تكمن بذرة فهم لتطور ظاهرة السلفية الجهادية الحديثة. وعلى رأسها داعش.
المشروع الذي بدأ منذ أكثر من 300 سنة. حين دفعت بريطانيا بأذرع استخباراتية لزرع الفتن المذهبية في المجتمعات الإسلامية. أثمر اليوم على شكل تنظيمات متوحشة تمارس القتل باسم الدين وتفكك الدول من الداخل.
لا تُفهم داعش فقط عبر الفقر أو الظلم. بل عبر من صنع بيئتها. ومن رعاها.
︎ مستر همفر و بناء الفتنة في مذكراته. يُشير همفر إلى مهامه في تمزيق العالم الإسلامي من الداخل. من خلال تجنيد دعاة يحملون فكرًا متطرفًا يعادي التعددية داخل الإسلام. ويعيد تشكيل الخطاب الديني بما يخدم مصالح بريطانيا العظمى.
ومن هنا يظهر اسم محمد بن عبد الوهاب رجل الدين الذي وجد في المشروع البريطاني فرصة. فصار حليفًا وظيفيًا للنفوذ الاستعماري. مدعومًا بالسيف والسياسة.
سواء كانت هذه الرواية دقيقة أو متخيّلة. فإن آثارها ظلت واضحة.. تحالف ديني- سياسي. يعيد رسم معادلات الحكم والاجتماع في الجزيرة العربية. ثم ينتقل لاحقًا إلى العراق وسوريا و أفغانستان وشمال إفريقيا.
︎ تركيا – الوريث الجديد للمشروع لا يمكن قراءة صعود داعش دون النظر إلى الدور التركي. خلال الحرب السورية. كانت المعابر مفتوحة. والإمدادات مستمرة. والصمت مريب.
بدت تركيا –التي تتبنى خطابًا عثمانيًا إسلامويًا– وكأنها تحمي المشروع السلفي المسلّح. أو على الأقل توظفه. تمامًا كما فعلت بريطانيا من قبل لتوسيع نفوذها على حساب خرائط ممزقة.
في العقد الأخير. برزت تركيا كداعم مركزي للتنظيمات السلفية الراديكالية. من جبهة النصرة إلى داعش. بشكل مباشر أو عبر . غض الطرف . عن خطوط الإمداد ونقاط العبور ومعسكرات التدريب.
تم ذلك بغطاء أيديولوجي واضح.. استخدام الإسلام السياسي كأداة توسّع جيوسياسي. تمامًا كما فعلت الإمبراطوريات قبل ثلاثة قرون.
أنقرة لم تكتفِ بالصمت أمام تمدد / الدولة الإسلامية / بل وفّرت المعابر. وفتحت الحدود. وقدّمت السلاح والدعم اللوجستي لعناصر داعش والنصرة وأحرار الشام. ووفّرت لهم تسهيلات لم يحصل عليها أي فصيل ديمقراطي سوري.
لم يكن دعم أردوغان لمشروع / الخلافة / حبًّا بداعش. بل رهانًا على استخدامها لضرب الكرد. والضغط على دمشق. و جعل كل من الموصل و حلب و الرقة. ولايات عثمانية
داعش لم تكن انزياحًا عشوائيًا. بل ثمرة مباشرة لمنظومة إقليمية تقودها أنقرة. وتستخدم فيها المنافذ الاستخباراتية والدينية كأدوات صراع ونفوذ. بما يعيد تدوير / مستر همفر / في نسخة تركية معاصرة.
︎ صراع السنةو الشيعة – من لندن الى بغدادمنذ أن سلّطت بريطانيا الضوء على الانقسامات المذهبية وهي تعمل على تأجيجها. من البحرين إلى البصرة. ومن اليمن إلى الشام. تظهر السياسات البريطانية الكلاسيكية –كما وصفها همفر– وعبر وثائق استعمارية أخرى. اعتمادها على تفجير التناقضات الطائفية لفرض السيطرة.
اليوم. في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي. وفي سوريا ما بعد الحرب. تستعيد هذه اللعبة القديمة فعاليتها. بأدوات محلية ودعم إقليمي. وأحيانًا بفتاوى ذات وظيفة حربية.
︎ داعش – نبتة من شجرة قديمة حين نتأمل في مشروع داعش . نجد تطابقًا مذهلًا مع ما وصفه همفر في القرن الثامن عشر.
• خطاب ديني متشدد
• تجنيد شباب محبطين
• تسليح عقائدي عنيف
• هدف تفكيك الدولة
• قتال كل المختلفين
إن داعش لم تُولد من فراغ. بل كانت نتيجة برنامج طويل النفس. قُدّم فيه الغلو على التسامح والقتل على الحوار و العقيدة كأداة سلطة لا كوسيلة نجاة.
لم تعد الحروب تخاض فقط بالمدافع. بل بالأفكار. مواجهة التنظيمات الراديكالية تبدأ من فهم من زرع بذورها.
لم تكن داعش سوى تجلٍ جديد لتحالفات قديمة. تتغيّر فيها الوجوه ويبقى المشروع واحدًا.. تفتيت ما تبقّى من الروابط بإعادة إنتاج صراعات تم تدبيرها في غرف المخابرات ومجالس السياسات الاستعمارية.
داعش ليست طفرة. هي نسخة مطوّرة من – المفترس الضال- الذي راقبته أجهزة المخابرات. كما وصفته المذكرات. لعقود. قُدّمت له الحروب كمنصات تدريب. والفوضى كملاذ للانتشار. و الدين كغطاء للإبادة.
هكذا وُلد الوحش: مدعومًا. منقى من كل رحمة. مدججا بسلاح الفتنة.
لذلك لا بد من فتح الأرشيف. إعادة قراءة ما كُتب. وما كُسر. وما تم تمويله من أفكار. وليس فقط من ميليشيات.
من سيدة البحار إلى دولة الخلافة. السلسلة واحدة. والنتائج كارثية.