بين إرث القوموية وصدى الإسلاموية

مثال سليمان

تفرض اللحظة السورية الراهنة، بما تحمله من تشظٍّ واحتدام اجتماعي، أسئلةً مصيرية على الفاعلين في الحقول الفكرية والروحية والثقافية، لاسيما أولئك الذين ينتمون إلى الفضاء الأوسع في البنية المجتمعية، الذي شكّل تاريخياً عموداً فقرياً للهوية الوطنية، لكنه ظلَّ أسيراً لخطابات متعارضة، وتفاعلات سياسية مضطربة، وولاءات تقليدية لم تنفك تحوم في فضاء الانتماء الأولي.

منذ النصف الثاني من القرن الماضي، تَشكَّل الوعي السياسي والاجتماعي لدى شرائح واسعة من هذه الكتلة السكانية ضمن نظام تبنّى سردية وحدوية شمولية، تقودها منظومة حزبية سعت لاحتكار الحيّز العام تحت لافتات التحرّر والاندماج، بينما كانت الممارسة على الأرض تسير في منحى مركزي سلطوي تخلّق في بيئة ضيقة. هذه السردية، رغم ما شابها من شعاراتية وتبسيط، نجحت في التسلل إلى البنية الذهنية العامة، خصوصاً مع غياب بدائل مؤسسية شرعية، ما جعل من الدولة منصةً لإعادة تشكيل الولاءات وتوجيه الانتماء نحو سرديات الهوية القومية، الممزوجة بحنينٍ إلى زمن الهيمنة التاريخية.

بالتوازي، نشأ خطاب ديني سياسي بديل، تغذّى على الموروث التقليدي وارتكز إلى سرديات الهوية الإيمانية، محاولًا بناء وعي مغاير ضمن البيئة المجتمعية ذاتها. إلا أن هذا الخطاب، بدوره، لم يخلُ من نزعة التفوق الجماعاتي، ومن ميلٍ إلى الاحتماء ضمن أسوار الهوية الخاصة، كرد فعل على صعود المراكز السلطوية المحسوبة على مكونات أخرى في النسيج الوطني. وبين هذين الخطابين – الأول السلطوي ذي الطابع القومي، والثاني المعارض ذي المرجعية العقدية (الدينية)– ظلّ الحراك المجتمعي يتأرجح دون أن يتكوّن وعي نقدي جمعي يتجاوز التمركز حول الذات نحو أفق وطني شامل.

جاءت لحظات القمع الكبرى في التاريخ المعاصر لتعمّق من هذا الانقسام، وتعيد إنتاج آليات التصادم والاستقطاب، حتى غدا العنف ليس فقط أداة للبقاء بيد السلطة، بل وسيلة تعبير عن الغضب في أوساط المُهمَّشين، الذين لم يمتلكوا أدوات التغيير السلمي. وفي مرحلة ما بعد التحولات الجيوسياسية في الجوار القريب، برز نمط جديد من التداخل، تمثل في اندماج بعض من النخب المرتبطة سابقاً بالنظام القديم مع الخطابات الدينية المتشددة، ما أنتج خليطاً بين الراديكالية العقدية والإرث السلطوي القمعي، وهو ما تجلّى لاحقاً في لغة بعض التشكيلات التي رفعت شعار التغيير، بينما مارست أدوات لا تقل فظاعة عن تلك التي واجهتها.

لقد أفرز هذا التداخل الإيديولوجي حالة من الجاهزية النفسية للانخراط في مشاريع سلطوية بديلة، متستّرة بشعارات الثورة أو العقيدة أو الدفاع عن الحق التاريخي للأغلبية. ولا يمكن فهم هذا الاصطفاف دون العودة إلى بنية الوعي العميق، الذي يرى في الكتلة الأكبر ديموغرافياً مالكة للشرعية الطبيعية في حكم البلاد، ويعامل باقي المكونات – من تنوعات دينية وعرقية وثقافية – بوصفها عقبات أمام نموذج الصفاء الوطني المنشود.

وما يعمّق الأزمة هو صمت أو تراجع قطاع واسع من الفاعلين في المجال الثقافي والديني، ممن اختاروا إما الاصطفاف الانفعالي، أو العزوف خشية الاتهام بالخروج عن الإجماع، أو المراوحة في المنطقة الرمادية. أما الخطاب الوسيط، الذي يُفترض أن يجمع بين العقلانية الدينية والتطلعات المدنية، فما زال عاجزاً عن التبلور نتيجة أزماته البنيوية، وعجزه عن مواجهة السرديات المتطرفة التي تحتل المشهد.

ولعلّ السؤال الأخطر الذي يفرضه هذا الواقع: لماذا يُصرّ هذا المكوّن المركزي في البنية السورية على إعادة تدوير الخطابات الإقصائية نفسها؟ ولماذا يعجز عن بلورة وعي وطني يتجاوز ثنائية المظلومية والهيمنة؟ ولماذا لا تزال فكرة الوطن، في مخياله، محكومة بمنطق الغلبة لا الشراكة؟

إن تفكيك هذه البنية الذهنية لا يمكن أن يمر فقط عبر نقد أدوات العنف، بل يتطلب تأسيس وعي جديد يُعيد بناء مفاهيم مثل الأغلبية والدولة والانتماء، على قاعدة المواطنة والعدالة وليس على منطق الامتياز والإقصاء. وبهذا الوعي وحده يمكن تصوّر مستقبل لا يُختزل في طائفة أو جماعة، إنما وطن متعدّد، متكامل، لا يرى في تعدديته خطراً، بل شرطاً للنجاة وبداية حقيقية للتغيير.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…