كوردستان بين منطق الدولة ومنطق العصابة

كفاح محمود

  في الوقت الذي تقطع فيه السلطة الاتحادية في بغداد رواتب موظفي إقليم كوردستان لأكثر من ثلاثة أشهر، مسببة أزمات معيشية خانقة لعشرات الآلاف من العائلات، وفي الوقت الذي تواصل فيه الميليشيات الولائية التابعة لها استهداف البنية التحتية الاقتصادية للإقليم، عبر قصف متكرر للمنشآت النفطية والمطارات، تخرج كوردستان لتقدم مشهدًا معاكسًا تمامًا في الأخلاق والسلوك السياسي.

  فقد أعلن رئيس وزراء حكومة إقليم كوردستان مؤخرًا استعداد حكومته لاستقبال جميع المصابين في فاجعة حريق (هايبر ماركت) الكوت* في مستشفيات الإقليم، وتقديم الرعاية لهم على نفقة الحكومة، دون تمييز أو منّة، وهذا الموقف لم يكن الأول، بل يأتي امتدادًا لنهج إنساني راسخ في سلوك حكومة الإقليم، حيث سبق أن فتحت كوردستان أبوابها لمصابي فاجعة غرق العبّارة في الموصل عام 2019، وأرسلت فرق الغواصين للمساعدة في عمليات البحث والإنقاذ، رغم أن الميليشيات المتحكمة حينها في المدينة كانت تقصف مطار أربيل وتستهدف أمن الإقليم.

  ثم جاءت فاجعة قاعة الأعراس في الحمدانية، حين احترق أكثر من مائة مواطن معظمهم من النساء والأطفال إضافة الى عشرات المصابين، لتعيد كوردستان الكرّة، فاستقبلت مستشفياتها العشرات من المصابين والجرحى وقدّمت لهم العلاج والرعاية المجانية، دون أن تلتفت إلى الجغرافيا أو الانتماء أو الخلفية الطائفية، كانت المأساة عراقية، وكانت استجابة كوردستان عراقية صادقة أيضًا.

  إنها مفارقة كبرى: كوردستان، التي تُعامل من قبل المركز ككيان معادي أو خصم سياسي، تثبت في كل مناسبة إنسانية أنها أكثر حرصًا على وحدة العراق من “العراق الرسمي” ذاته، بينما تُستخدم الرواتب كسلاح، والمعابر كأوراق ابتزاز، والنفط كأداة تجويع، تبادر كوردستان لتغليب منطق الدولة، حيث الدولة مسؤولية لا انتقام، وحيث المصاب العراقي واحد سواء كان في الكوت أو السليمانية، في الحمدانية أو دهوك.

  لقد صار واضحًا أن الصراع بين كوردستان والمركز لم يعد صراعًا على الصلاحيات أو الإيرادات فقط، بل هو صراع بين منطقين متناقضين في إدارة الحكم، منطق الدولة الذي يقدّم المواطن على السياسة، والكرامة على الصفقات، والضمير على السلاح، في مقابل منطق العصابة الذي يحوّل مؤسسات الدولة إلى أدوات قمع، ويُخضع الناس للولاءات الطائفية والحزبية، ويستعمل الميليشيات كامتداد للسلطة.

  الخطورة فيما يجري ليست فقط في تجويع الإقليم أو قصفه، بل في تكريس مفهوم مقلوب للدولة: دولة تُعاقب من ينجح في تقديم نموذج مختلف، وتتحالف مع الفوضى المسلحة لإخضاع الأقاليم التي ترفض الخضوع للمحاصصة والفساد.

  ومع ذلك، لا تزال كوردستان ترد على الجراح بالمروءة، وعلى القصف بالرحمة، وعلى الحصار بالواجب الوطني، إنها لا تفعل ذلك فقط لتكسب الاحترام، بل لأنها تُمثّل ما تبقى من معنى الدولة في عراق يتآكل، حيث تذوب الحدود بين العصابات والقرار السياسي، وتُختطف المواطنة لصالح الأيديولوجيا.

  ليست كوردستان كاملة، ولا تجربتها خالية من العيوب، لكنها بالتأكيد أكثر انسجامًا مع فكرة الدولة مما يُمارَس في المركز، فهي لم تغلق حدودها أمام الجرحى، ولم تميّز بين عراقي وآخر في لحظة الكارثة، ولم تستثمر في الألم كما تفعل بعض الأطراف في بغداد.

  ربما لا تستطيع كوردستان إيقاف العدوان عليها، ولا إنهاء الحصار المالي، لكنها قادرة على تقديم الدرس: أن السياسة ليست سبيلاً للانتقام، وأن الوطنية ليست شعارًا، بل فعلًا أخلاقيًا يُختبر في المحن.

  وهكذا، تبقى كوردستان بين منطق الدولة ومنطق العصابة… وتختار، رغم كل شيء، أن تبقى على الجانب النبيل من التاريخ.

==============

  • فاجعة الكوت: احتراق مركز للتسوق (هايبر ماركت) ووقوع اكثر من 60 قتيلا ومئات المحروقين.
  • فاجعة العبارة: غرق عبارة متهالكة في نهر دجلة وعليها عشرات الأطفال والنساء
  • فاجعة قاعة الأعراس: احتراق القاعة بمن فيها من مئات المحتفلين بزواج أحد المواطنين في قضاء الحمدانية شرق الموصل.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…