د. محمود عباس
نقولها بوضوح، وردا على المقال المنوه إليه، السريان ليسوا عربًا، ولا امتدادًا لقبائل حائل وتيماء، وكوردستان، في شطرها الغربي، لم تكن يومًا مضافةً على الخارطة السورية، بل هي الأرض التي تشارك الكورد بمختلف أديانهم من المسلمين والمسيحيين والإيزيديين واليهود والزرادشتيين إلى جانب الأرمن والآشوريون في حمايتها، قبل أن يحلّ عليها الطوفان القومي العرب، وقد كنّا قد قدّمنا في هذا السياق دراساتٍ تاريخية موثّقة، مستندة إلى مصادر متنوعة وموثوقة، تعود إلى بدايات الغزوات الإسلامية، وما رافقها من تحوّلات سكانية وثقافية أثّرت في الخارطة الديمغرافية للمنطقة.
أولًا، لا خلاف على أن بعض القبائل العربية، كطيء وتغلب وبكر بن وائل، اعتنقت المسيحية في عصور ما قبل الإسلام، لكن هذا لا يبرر اختزال المكون السرياني- الكوردي، الأصيل في الجزيرة، وليس السريان – الأرامي أبناء سوريا الأصلية والتي كانت تضم لبنان وجزء من فلسطين والأردن، في رواية القبائل العربية. فالسريان في سوريا القديمة وهم الامتداد المباشر للآراميين، شعب مستقل قوميًا، لغويًا، وثقافيًا، وجغرافيًا، لا علاقة لهم بقبائل حائل أو الجزيرة العربية، بل هم أبناء الأرض، جذورهم ضاربة في أعماق التاريخ، قبل أن تعرف الجزيرة الكوردستانية أي وجود عربي فعلي.
ثانيًا، إن الادعاء بأن المسيحيين في الجزيرة التي ضمت إلى الدولة السورية بعد تقسيمات سايكس بيكو الجيوسياسية، هم من بقايا القبائل العربية المسيحية التي اعتنقت المذهب النسطوري وهربت من اضطهاد بيزنطة، هو تزييف للحقائق السكانية، فالمسيحيون السريان الذين يسكنون اليوم في مدن وقرى الجزيرة، لا سيما في القامشلي وديريك وقرى طور عابدين، هم في غالبيتهم المطلقة مهاجرون قسريًا من شمال كوردستان، معظمهم من الكورد الذين اعتنقوا المسيحية وتعلموا الأرامية وكانت لغة الكنيسة كما تعلَّمَ الكورد المسلمون لغة المسجد، اللغة العربية – لغة القرآن، والتكيات المنتشرة في كوردستان خير مثال، مثلها مثل الكنائس النسطورية في معظم أجزاء شمال كوردستان، جاؤوا إلى مناطق الجزيرة، هربًا من المجازر العثمانية (سيفو 1915) ومذابح الاتحاد والترقي، ولم يأتوا بصفتهم قبائل عربية، بل عشائر كوردية ناطقة بالسريانية والآرامية، اعتُدي عليها وقتل رجالها وسُبيت نساؤها وهُدمت كنائسها، ففرّوا إلى أرض كانت آمنة نسبيًا حينها، الجزيرة الكوردستانية.
ثالثًا، إن اللغة التي يتحدث بها بعض أبناء السريان في المنطقة ليست دليلًا على الانتماء القومي، بل على المجاورة والاحتكاك، وهذا أمر طبيعي في المجتمعات المختلطة، لكنه لا يسمح بتزوير التاريخ والقول بأن من يتكلم العربية هو بالضرورة عربي الأصل، ومن الغرابة أن هذه الجدلية مررت على شرائح واسعة من المسلمين الكورد الذين تعمقوا في الفقه الإسلامي، وسموا بالمتصوفة أو الأسياد، وبعض مشايخ التكيات الكوردية. فهل يمكننا القول مثلًا إن الكورد أصبحوا عربًا لأنهم يتحدثون العربية؟ أم أن الأمازيغ عرب لأنهم يجيدونها؟ وكذلك القبط؟ اللغة، كما يعلم الجميع، كانت دومًا أداة السلطة، وقد فرضت العربية كلغة قرآن ودولة منذ القرن الثامن، ما دفع بالكثير من الشعوب، ومنها السريان-الأراميون، إلى التحدث بها قسرًا دون أن يتخلوا عن هويتهم القومية، رغم ما مورست بحقهم من عمليات الإذابة في بوتقة لغة وقومية الأنظمة الدكتاتورية العروبية الحاكمة، وما يجري اليوم من نشر كتابات ودراسات تاريخية مغرضة وكارثية استمرار لنفس المنهجية السابقة حتى ولو أنها تتم بطرق اكثر خباثة وتحريفا للتاريخ.
رابعًا، من الغرابة بمكان أن يسوّق المقال لفكرة أن الانتماء السرياني-الأرامي في مناطق سوريا القديمة، يمكن أن يكون مجرد “طائفة دينية” أو حالة ثقافية، بينما هو في الحقيقة انتماء قومي متكامل، له تاريخه ولغته، وآدابه، وأساطيره، وكنائسه. ومن المدهش أن يغفل المقال أن الكنائس السريانية المتواجدة في كوردستان، سواء الأرثوذكسية أو الكاثوليكية أو الشرقية، لا تعرّف أتباعها كأبناء قبائل عربية، وهم ينتشرون ما بين الموصل إلى طور عابدين.
خامسًا، من المفارقة أن يتحدث المقال عن أحلاف دم بين قبائل عربية وسريانية وكأنها وحدة قومية متجذرة، في حين أن الواقع التاريخي يثبت أن هذه الأحلاف إنما جاءت لاحقًا، ومعظمها في القرن العشرين، نتيجة ظروف استثنائية، وهي لا تمثل الأصل، بل استثناءات ظرفية في مواجهة الأنظمة الشمولية أو الرغبة في حماية الوجود المسيحي من الزوال، بعد أن تم تهميشه من قبل القوى القومية العربية.
يتبع…
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
4/7/2025م