دروس من الجنوب: السويداء تُسقط قناع الدولة المركزية

عدنان بدرالدين
لم تكن المواجهات الدامية التي شهدتها محافظة السويداء مؤخرًا مجرّد حدثٍ محلي عابر في جغرافيا لطالما نأت بنفسها عن بؤر الصراع السوري، بل تحوّلت إلى لحظة مفصلية كشفت حدود مشروع أحمد الشرع وهشاشة منطق الدولة المركزية، الذي يُسعى لفرضه تارةً بالقوة وتارةً بالدعاية السياسية، مستندًا إلى دعم معلن من أنقرة وبعض العواصم العربية.
منذ اللحظة التي حاولت فيها قوات الشرع إحكام قبضتها الأمنية على المدينة، بدا أن السويداء ترفض أن تكون هامشًا يُدمج قسرًا في مشروع سياسي لا يعترف بخصوصيتها التاريخية والثقافية. الردّ الشعبي لم يتأخّر، وتحول الرفض المجتمعي إلى مقاومة مسلّحة، حيث استُخدم السلاح في صدّ المركز الذي برّر تدخله بأنه يسعى إلى “فرض الأمن” و”ضبط السلاح المنفلت”. لكن هذا التدخل لم يفتح سوى أبواب الجنوب السوري على احتمالات غامضة ومعقّدة.
إلا أن أخطر ما أفرزته هذه التطورات لم يكن في ردود الفعل المحلية فحسب، بل في التدخل الإسرائيلي الحاسم. فعلى خلاف سائر اللاعبين الإقليميين، لم تلجأ تل أبيب إلى القنوات الدبلوماسية أو البيانات التحذيرية، بل استخدمت القوة العسكرية المباشرة: استهدفت مواقع تابعة لإدارة الشرع في محيط النزاع، وضربت منشآت سيادية في قلب دمشق، في رسالة لا تحتمل التأويل: إسرائيل، لا تركيا ولا حتى واشنطن، هي من يضع الخطوط الحمراء في الجنوب السوري حين يتعلق الأمر بأمنها القومي.
الصمت الأمريكي في البداية، أعقبه انسجام شبه تام مع الموقف الإسرائيلي، وخصوصًا اختفاء المبعوث الأمريكي توماس باراك عن واجهة الحدث، ما عرّى حدود الدور الأمريكي عندما تتقاطع اعتبارات واشنطن الدبلوماسية مع أمن إسرائيل الاستراتيجي. باراك، المعروف بخطابه المتحامل على الكرد، والذي سبق أن ألمح إلى إعادة لبنان إلى “بلاد الشام” بوصفه امتدادًا لمجال النفوذ، اختار الصمت هذه المرة أمام الحسم الإسرائيلي، مدركًا – على ما يبدو – أن أي مناورة دبلوماسية هنا قد تُنهي مسيرته قبل أن تبدأ فعليًا.
وفي نهاية المطاف، جاء اتفاق وقف إطلاق النار في السويداء نتيجة وساطة ثلاثية – أمريكية، تركية، عربية – لكنه صيغ بوضوح كتنازل سياسي كبير من إدارة الشرع. فقد منح الاتفاق سكان السويداء، ومعظمهم من الدروز، نوعًا من الإدارة الذاتية الفعلية، وإن ظلت رمزيًا مرتبطة بدمشق. كما لبّى بالكامل المطلب الإسرائيلي بجعل الجنوب منطقة منزوعة السلاح، حتى من سلاح جيش الشرع ذاته.
هذا الاتفاق لا يُعد تراجعًا ميدانيًا فحسب، بل سابقة سياسية يصعب الالتفاف عليها لاحقًا. إذ إن إدارة الشرع، التي لا تكفّ عن ترديد شعار “استعادة كل شبر من أرض الوطن”، وافقت عمليًا على استثناء منطقة بأكملها من سلطتها الفعلية. وهذا التنازل يتعارض جوهريًا مع مشروعها القائم على دولة عربية محافظة، يتسلّط فيها زعيم أوحد يمارس سلطته فوق المؤسسات، ويُلزم المكونات القومية والدينية إما بالانصهار أو بالإخضاع.
تجربة السويداء رسمت الحد الفاصل بين شعارات السيادة، التي تُخفي في جوهرها نزعة استحواذية على جغرافيا شديدة التعقيد، وبين وقائع الأرض الصلبة المدعومة بتوازنات داخلية وإقليمية ودولية. لقد وجّهت رسالة صارخة: النموذج المركزي، مهما ارتدى لبوس الدولة، لا يمكن فرضه عسكريًا، خاصة في ظل هشاشة الإدارة، وارتباك خطابها، وعجز داعميها عن فرض تسوية تُرضي جميع الأطراف.
الأهم من ذلك أن اتفاق السويداء وضع أنقرة أمام امتحان صعب. فتركيا، التي لعبت دور الوسيط الفاعل، ووافقت فعليًا على هذه الصيغة، ستجد نفسها في موقف ملتبس إن عارضت لاحقًا نموذجًا مشابهًا في مناطق شرق الفرات، حيث الإدارة الذاتية الكردية قائمة منذ أكثر من عقد. أي رفض تركي مستقبلي لهذا النموذج سيبدو كازدواج في المعايير، ما يُضعف حجّتها أمام خصومها، ويحرج حلفاءها أمام المجتمع الدولي.
السويداء، إذًا، لم تكن فقط ساحة لاشتباك مسلح، بل مختبرًا حقيقيًا لمستقبل سوريا. فإما أن يُبنى هذا المستقبل على أساس من الواقعية السياسية، يعترف بالتعدد، ويفسح المجال لخيارات لا مركزية مرنة، أو أن يستمر النزيف السياسي والمؤسساتي الناتج عن صيغ الهيمنة والإقصاء، التي أثبتت فشلها منذ نشوء الدولة السورية الحديثة.
17 تموز 2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين المجتمع الأمريكي من اكثر المجتمعات بالعالم تنوعا من النواحي العرقية ، والثقافية ، والجنسية ، فبخلاف اهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر الذين عاشوا الحياة البدائية لقرون غابرة ، والذين انقرضوا بمرور الزمن ، هناك مئات الملايين من مهاجرين من عشرات الانتماءات القومية ، والثقافية لشعوب أوروبا ، وافريقيا ، وآسيا ، وامريكا اللاتينية ، وأستراليا تعاقدوا منذ…

زاكروس عثمان في النقاشات السياسية المتصلة بسوريا، يبرز خطاب إعلامي موجَّه يعتمد على مغالطات لغوية – سياسية تُستخدم لترسيخ رواية السلفية–التكفيرية حول “الدولة الواحدة” و“هيمنة الأغلبية”. ومن أخطر هذه المغالطات ما جاء به الإعلامي السوري فيصل القاسم في مقاله المنشور في صحيفة القدس العربي يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025 بعنوان: «متى حكمت الأقليات في الديمقراطيات؟». يبدأ القاسم مقاله بهجوم حاد…

د. محمود عباس من أخطر الظواهر التي تعيد إنتاج عصور الجهل والظلام في واقعنا السوري الراهن، تلك الموجة المسعورة التي تستهدف المفكرين والكتّاب الأحرار، ومن بينهم الكاتب الكوردي (هوشنك أوسي) وسائر الأقلام الديمقراطية المستقلة، التي تكتب بضمير وطني حرّ، والتي ندينها بأشد العبارات. فالهجمة لا تصدر عن نقد فكري مشروع، بل تُشنّ بأدوات التكفير والتحريض من قبل فلول التطرف وبقايا…

جليل إبراهيم المندلاوي في الوقت الذي صار فيه المقعد النيابي أكبر من صاحبه، وأضيق من أن يتّسع لفكرة الديمقراطية، خرج علينا مشهدٌ يلخّص أزمة السلطة حين تنقلب على أصل معناها، ففي قضاء الدبس الهادئ، استيقظ الأهالي على عرض أكشن سياسيّ حيّ.. حيث اقتحم نائب منتخب بيت مواطن لأنه تجرأ وكتب تعليقا على فيسبوك، عجبا.. يبدو أن الديمقراطية عند البعض تتحسس…