كيف تفخخ واشنطن سوريا من الداخل؟

عدنان بدرالدين
بينما تتصاعد الاشتباكات في محافظة السويداء – معقل الطائفة الدرزية في جنوب سوريا – تختار الولايات المتحدة مجددًا التزام سياسة “الحذر” في التعامل مع أزمة لا تقل خطورة عن أي ساحة أخرى في البلاد. هذا الحذر، كما يُسوَّق له في البيانات الرسمية، لا يُخفي في جوهره ملامح مقاربة انتقائية، تقترب في طبيعتها من اللا أخلاقية، إزاء معاناة مكوّن تم تهميشه طويلًا، ويُراد له اليوم أن يتأقلم بصمت مع مشهد سياسي جديد تُهندسه قوى إقليمية من خارج الحدود.
اللافت أن إسرائيل، في مفارقة واضحة، وإن كانت مدفوعة بهواجس أمنية، تبدي اهتمامًا علنيًا بحماية الدروز السوريين، وقد أرفقت ضرباتها الجوية الأخيرة في الجنوب بتصريحات مباشرة من رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، تؤكد رفضها لتحوّل المنطقة إلى “لبنان جديد”. في المقابل، تكتفي واشنطن برسائل دبلوماسية باهتة، تضع “وقف التصعيد” كأولوية، من دون أي التزام عملي بحماية التعددية أو ضمان تمثيل عادل لمكوّنات المجتمع السوري – وفي مقدمتها الأقليات، مع التحفّظ على هذا المصطلح.
ما يُخشى اليوم هو أن تكون السياسة الأميركية قد تجاوزت حدود الانحياز التقليدي، إلى مستوى من التواطؤ الضمني، يتجلى في انسجامها الصريح مع الأجندة التركية  في سوريا. فالتحالف القائم بين الطرفين لا يسعى إلى تسوية عادلة، بقدر ما يعيد إنتاج معادلة إقصائية تُروّج لنموذج سلطوي جديد، تُجسّده “الحكومة الانتقالية” برئاسة أحمد الشرع – زعيم هيئة تحرير الشام سابقًا – وهي سلطة تعاني من هشاشة شرعية واضحة، وفراغ عسكري حقيقي بعد أن دمّرت إسرائيل معظم البنية التحتية لجيش النظام السابق.
وفي ظل هذا الفراغ، لا يجد الشرع سوى ما تبقّى من إمكاناته العسكرية لتوظيفها في قمع خصومه الداخليين، وهو ما لم يتوقف عن ممارسته منذ وصوله المفاجئ إلى السلطة في نهاية العام المنصرم.
ورغم ما يُنسَب للشرع من “اعتدال”، فإن الجيش التابع له ليس سوى مزيج من تنظيمات متشددة “إنصهرت” في بوتقة واحدة، وأُعيد تسويقها كجيش وطني. هذا الانصهار لا يثير قلق المكونات فحسب، بل بدأ يولّد ريبة صامتة داخل الحاضنة  العربية السنية نفسها، التي لا تُخفي توجّسها من تغوّل فصائل الأمر الواقع، ومن رعاية إقليمية -أميركية تُعيد رسم سوريا على أسس مذهبية ومناطقية، لا وطنية، أي إعادة إنتاج لنظام الأسد بلبوس جديد.
أما الكرد – وهم بأغلبيتهم من السنّة، ويزيد عددهم على ثلاثة ملايين – فلا يرون في هذه الحكومة الانتقالية سوى امتداد لسياسات استهدفتهم مرارًا، شمالًا وشرقًا، تحت ذريعة “الأمن القومي التركي”. اعتراضهم على نهج الشرع ليس مجرّد خلاف سياسي، بل تعبير عن انعدام ثقة عميق في مشروع يرمي إلى تهميشهم وإقصائهم بالكامل من المعادلة الوطنية.
في هذا السياق، يبرز المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، بوصفه ناقلًا أمينًا للرسائل التركية، أكثر منه ممثلًا لسياسة أميركية مستقلة. إذ لا يُخفي باراك تماهيه مع أولويات أنقرة، سواء في تعاطيه مع الملف الكردي، أو في تلميعه المتكرر لسلطة انتقالية مفروضة بقوة الأمر الواقع والسلاح، لا عبر توافق وطني مشروع.
لكن الخطر الأكبر يكمن في وهم “الاستقرار”. فبناء استقرار فوق حطام الدولة السورية، من دون حل جذري لمسألة التمثيل السياسي، ومن دون دمج حقيقي لجميع مكونات المجتمع، لن يؤدي سوى إلى إنتاج نموذج أكثر عنفًا مما عرفه السوريون خلال أربعة عشر عامًا من الحرب الأهلية المدمّرة. لقد اختارت واشنطن، مجددًا، أن تحمي مصالحها على حساب نسيج شعب منهك في بلد مدمَّر، وهو ما قد يفجّر من الداخل ما تزعم أنها تسعى لصونه.
هكذا تدخل زعيمة العالم “الحر” في شراكة مريبة مع من يخنقون الحرية وينفخون في جمرة الحرب، لا لأنهم يسعون لإطفائها، بل لأنهم لا يحسون بالدفء إلا حين يشتد أوارها.
16 تموز 2025  

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…

  نظام مير محمدي * شهد البرلمان الأوروبي يوم العاشر من ديسمبر/كانون الأول، الموافق لليوم العالمي لحقوق الإنسان، انعقاد مؤتمرين متتاليين رفيعي المستوى، تمحورا حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في إيران وضرورة محاسبة النظام الحاكم. وكانت السيدة مريم رجوي، الرئيسة المنتخبة للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، المتحدث الرئيسي في كلا الاجتماعين. في الجلسة الثانية، التي أدارها السيد ستروآن ستيفنسون،…

المهندس باسل قس نصر الله بدأت قصة قانون قيصر عندما انشقّ المصوّر العسكري السوري “فريد المذهّان” عام 2013 — والذي عُرف لاحقاً باسم “قيصر” — ومعه المهندس المدني أسامة عثمان والمعروف بلقب “سامي”، حيث نفذ المذهان أضخم عملية تسريب للصور من أجهزة الأمن ومعتقلات نظام الأسد، شملت هذه الصور آلاف المعتقلين بعد قتلهم تحت التعذيب وتعاون الإثنان في عملية…