اكرم حسين
تواجه سوريا لحظة استثنائية من تاريخها الحديث، إذ تدخل في طور انتقالي يحمل وعوداً بالتعافي، لكنه لا يخلو من التحديات البنيوية العميقة. فبعد أكثر من عقد من الحرب والانقسام، لم تعد المعضلة فقط في استعادة السيطرة على الجغرافيا، بل في إعادة تعريف الدولة بوصفها إطاراً يتسع لجميع مكوناتها على أسس المشاركة والتمثيل المتوازن. وفي هذا السياق، تبرز اتفاقية العاشر من آذار بين السلطة الانتقالية في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) كمؤشر سياسي بالغ الدلالة، على إمكانية إعادة توحيد البلاد إدارياً، وبناء عقد اجتماعي جديد يُنهي منطق الإقصاء والغلبة …!
تدرك السلطة الانتقالية أن السيطرة على كامل الأرض السورية هي شرط لا يمكن تجاوزه لإطلاق خطة اقتصادية متماسكة، واستعادة العلاقات الإقليمية والدولية، وإنهاء مظاهر الانقسام التي تعيق إعادة الإعمار. إلا أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه لمجرد فرض السلطة الإدارية أو استعادة المؤسسات، بل عبر منظومة سياسية تستوعب التنوع السوري، وتمنح الشراكة مكانها الطبيعي ضمن بنيان الدولة. فالنظر إلى التعدد بوصفه عبئاً، والتمثيل بوصفه منحة ، ليس مجدياً في عالم ما بعد النزاعات، حيث باتت الدول تبنى على أساس الاستقرار الداخلي، والشراكات الحقيقية
بالمقابل، تتعامل قسد والقوى الكردية الأخرى بقدرمن الحذر المشروع ، نتيجة تجارب طويلة من التهميش والإنكار، وشكوك قد تكون مبررة في نوايا الدولة تجاه أي شراكة حقيقية حيث أن مسيرة الأشهر الماضية لم تنفي ذلك . …! غير أن طول أمد الانتظار، وتعقيد السياقات الإقليمية والدولية، قد يحوّل هذا الحذر إلى فرصة ضائعة. فالمشاركة ، وإن بدت محدودة في البداية، قد تشكل بوابة للتأثير الفعلي في عملية إعادة تأسيس الدولة . أما البقاء خارج المعادلة، فيعني ذلك ترك المجال لإعادة تشكيل الدولة دون حضور يعكس تطلعات مكونات رئيسية في المجتمع السوري.
تعاني سوريا اليوم من غياب الأمن و الخدمات، اضافةً الى غياب التصور الوطني المشترك. فالدولة التي تنهض من رماد الصراع لا تُبنى على مفاهيم السيادة المغلقة أو النفي المتبادل، بل على قاعدة الاعتراف المتبادل، وصياغة آليات واضحة لتوزيع السلطة والثروة، بحيث تضمن لجميع الأطراف الشعور بالمواطنة والمشاركة ، ومن هنا، فإن تطبيق اتفاق 10 آذار يجب ألا ينظر إليه في بعده العسكري أو الإداري، بل كمدخل لتحول سياسي أعمق، عنوانه إعادة بناء الدولة وفق منطق التفاوض، لا الفرض أو القوة .
إن التفرد في إدارة المرحلة الانتقالية، حتى لو جاء تحت غطاء استعادة الدولة، يعيد إنتاج أسباب الانفجار الأولى، ويُضعف فرص التفاهم الوطني ، وبالتالي الشراكة ليست مطلباً كردياً فحسب، بل ضرورة وطنية تفرضها مصلحة سوريا ككل. فكل الدول التي نهضت بعد صراعات مماثلة، لم تنجح إلا حين اعترفت بتعدد هويتها، وأعادت توزيع سلطتها على نحو يعكس التوازن الفعلي داخل المجتمع.
اللحظة السورية الراهنة تفرض على الجميع مغادرة منطق المكاسب الكاملة ، لصالح التفكير في بناء نموذج جديد للدولة، تتكافأ فيه المصالح، وتُصان فيه الخصوصيات، ويُدار فيه التنوع كقوة ، وهذا يتطلب من السلطة الانتقالية أن تتجاوز أساليب الحكم القديمة، ومن الأطراف الكردية أن تتحرك باتجاه الشراكة البناءة، من موقع الفاعل في الدولة، وليس من خارجها.
اتفاق 10 آذار بداية لمسار يجب ان يُقترن بآليات تنفيذية تضمن تمثيلاً فعلياً وعدالة في توزيع القرار، كي لا يتحول إلى وثيقة نظرية لا تصمد أمام امتحان الواقع. بل يجب ان يستثمر كفرصة لإطلاق حوار وطني حقيقي، وأن يمهد لتحول نوعي في شكل الدولة السورية القادمة.
في نهاية المطاف، لا يمكن لسوريا أن تعود دولة فاعلة ومتعافية ما لم تعترف بكل أبنائها، وتفتح الباب أمام شراكة تعكس حقيقة مجتمعها المتنوع. فالسلطة لا تُستعاد بفرض الإرادة، بل بإعادة تعريفها ضمن مشروع وطني جامع ، وما لم تُغتنم هذه اللحظة لبناء ذلك المشروع، فقد لا تأتي لحظة أخرى تسمح بما تسمح به الآن من إمكان.؟