خوشناف سليمان ديبو
في ظل تفاقم تعقيدات الأزمة السورية وتبدّل موازين القوى على أراضيها، أعادت الولايات المتحدة صياغة استراتيجيتها بطريقة تتجاوز الإطار التقليدي لمكافحة الإرهاب، لتكشف عن تحولات جوهرية في أولوياتها. فعلى الرغم من استمرار واشنطن في تقديم نفسها كفاعل مركزي في “الحرب العالمية على الإرهاب” وكمدافع رئيس عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، تتبدّى في المقابل فجوة عميقة بين هذا الخطاب القيمي والمصالح الفعلية. لقد تحوّلت مكافحة الإرهاب من هدف مُعلن إلى أداة براغماتية لإعادة رسم الخرائط السياسية والعسكرية في المنطقة، من خلال انتقاء ودعم قوى محلية تخدم مصالح واشنطن في احتواء النفوذين الإيراني والروسي، حتى لو جاء ذلك على حساب المبادئ الأخلاقية والقيم الديمقراطية التي ترفعها شعاراً.
وتتجلى هذه المفارقة بوضوح في الموقف الأميركي تجاه بعض الزعامات الجهادية، ولا سيما في ضوء التصريحات الأخيرة لمبعوث إدارة ترامب، توماس باراك، التي أشار فيها صراحة إلى الاعتراف بـ”سلطة أحمد الشرع” المعروف بـ”أبو محمد الجولاني”، زعيم “جبهة النصرة” السابق. يمكن القول إن هذا الإعلان يمثل مؤشراً صريحاً على انتقال السياسة الأميركية من مقاربة قائمة على اجتثاث التنظيمات الجهادية إلى مقاربة توظيف هذه الفصائل كأدوات ضغط في الصراع على النفوذ، بغض النظر عن تصنيفها الإرهابي أو مسؤوليتها المباشرة عن انتهاكات جسيمة ضد المدنيين.
في السياق نفسه، شكلت العلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) نموذجاً لتناقضات السياسة الأميركية. فمنذ عام 2015، اعتمدت واشنطن على قسد كشريك رئيسي في الحرب ضد تنظيم داعش، مقدمة إياها كقوة تمثل مشروعاً تعددياً في شمال وشرق البلاد. غير أن هذا الدعم ظل محكوماً بسقف المصالح الأميركية، خاصة فيما يتعلق بإدارة العلاقة الحساسة مع تركيا، الحليف في حلف الناتو، التي تنظر بعين العداء إلى أي كيان كُردي في جوارها.
ومع تنامي الحاجة الأميركية لإعادة ضبط توازنات النفوذ في سوريا، بدأت واشنطن، مدعومةً ببعض مراكز الدراسات الغربية، في تبني خطاب جديد يروّج لإعادة تأهيل شخصيات جهادية سابقة وتقديمها كـ”بدائل سياسية” مقبولة. ويُظهر هذا التوجه استعداد الولايات المتحدة لتجاوز المحظورات القيمية، وصولاً إلى التعاون مع قوى سبق تصنيفها على قوائم الإرهاب، تحت شعار “البراغماتية الأمنية”.
في خضم هذه التحولات، تجد قوات سوريا الديمقراطية نفسها أمام مفترق طرق مصيري، بين خيارين كلاهما مرّ: إما الدخول في تسوية مع الحكومة المركزية في دمشق، وهو ما يقتضي تقديم تنازلات جوهرية قد تؤدي إلى دفن مشروع الإدارة الذاتية، أو تبنّي خيار المقاومة المسلحة، الذي يفتقر عملياً إلى المقومات العسكرية والسياسية في ظل اختلال موازين القوى وتراجع الدعم الدولي. وفي كلا الخيارين، تتبدى هشاشة الوضع، خاصة إذا اعتُبر المشروع في جوهره مشروعاً كُردياً صرفاً. وفي جميع الأحوال، يظل الكُرد رهائن للمعادلات الإقليمية والدولية، يُستدعون كورقة ضغط متى اقتضت الضرورة، ويُهمشون متى انتفت الحاجة إلى خدماتهم.
تعيد هذه التطورات إلى الأذهان سلسلة الإخفاقات التاريخية التي تعرض لها الكُرد في المنطقة، بدءاً من اتفاقية سايكس–بيكو، مروراً باتفاقية الجزائر عام 1975، وتخلي واشنطن عن دعم الانتفاضة الكُردية في العراق عام 1991، وصولاً إلى خيبات الراهن السوري. في كل محطة، تكرست حقيقة مفادها أن الكُرد يواجهون مصائرهم وحدهم، دون حلفاء ثابتين أو ضمانات سياسية حقيقية.
تكشف هذه المعطيات أن الخطاب الأميركي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ليس سوى أداة دبلوماسية مرنة، تُعاد صياغتها وتوظيفها وفق متطلبات المصالح الجيوسياسية. فعندما تقتضي الضرورة، لا تجد واشنطن حرجاً في التعاون مع فصائل كانت، إلى وقت قريب، تُقدم كرمز “للإرهاب المطلق”، بل وتعمل على إعادة إنتاجها في صورة معتدلة أو قابلة للتعاون، بما ينسجم مع أولوياتها الأمنية في المنطقة.
يسلط هذا التوجه الضوء على مفارقة قاسية: الكُرد، الذين رفعوا شعار التعددية والديمقراطية، يدفعون مجدداً ثمن إخلاصهم لهذه القيم في بيئة سياسية إقليمية ودولية لا تعترف إلا بموازين القوة. وبينما تواصل واشنطن إعادة هندسة المشهد السوري وفق حساباتها الأمنية، يظل المشروع الكُردي في سوريا عرضةً للتآكل التدريجي، مهدداً بفقدان مكتسباته السياسية والإدارية، بل وربما بفقدان مستقبله ومصيره ككل.
وهكذا، يتضح أن سياسة ما يمكن تسميته بـ”الإرهاب الديمقراطي” ليست سوى تكتيك جديد في الاستراتيجية الأميركية، يعكس استعدادها لإعادة إنتاج الفصائل الجهادية والتعاون معها في أي لحظة، متى ما اقتضت الضرورة، ودون اكتراث لخطاب القيم أو شعارات الديمقراطية.
وفي ظل غياب بدائل واقعية وضمانات دولية حقيقية، يواجه الكُرد مجدداً امتحان البقاء في معركة لا تحكمها المبادئ، بل تحكمها منطق المصالح وموازين القوى المتقلبة.