عبد الرحمن قاسملو… حين يتحوّل الدم إلى مشروع وطني

ماهين شيخاني

 

مقدمة: رصاص على طاولة المفاوضات

في تموز من عام 1989، داخل أحد أروقة فندق «أمباسادور» في فيينا، انتهى اجتماع سياسي بطريقة لا تليق بالسياسة: اثنتا عشرة رصاصة اخترقت جسد عبد الرحمن قاسملو، لتسدل الستار على رجلٍ كان يؤمن أن القضية الكوردية يمكن أن تخرج من بندقية البيشمركة لتجلس على طاولة التفاوض بنديّة.

لم يكن ذلك مجرد اغتيال… كان إعلانًا صريحًا: الحديث عن الحقوق الكوردية جريمة، حتى وإن تم بلغة ناعمة ودبلوماسية.

طفولة تشبه الشرارة الأولى

ولد قاسملو عام 1930 في أورمية، في كوردستان إيران، في زمن كان فيه الحديث بالكوردية يعد جرمًا، والتعليم بها رجسًا سياسيًا. ذات يوم، رأى بأم عينيه الجنود وهم يحرقون كتبًا كوردية في الساحة، فصرخ من قلبه:

“سأكون مكتبة تمشي على قدمين.”

ومنذ ذلك اليوم، بدأ مشروعه: لا بندقية فقط، بل فكرة. لا هتاف فقط، بل خطاب.

انتقل إلى باريس، ودرس في السوربون، وأتقن لغات سبع، لكنه ظل وفيًا للغته الأم، للكلمة التي أراد لها أن تكون بندقية من نوع آخر.

زعيم لا يشبه زمنه: أربع معارك تصنع الأسطورة

  1. الدولة الحلم (1968):

لم يكتفِ بقيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني – إيران، بل حوّله إلى مشروع دولة مُصغّرة. أنشأ مدارس، محاكم، بل وحتى نظامًا ضريبيًا.

قال يومًا:

“ما أنجزناه في الجبال لم تستطع طهران إنجازه في خمسين سنة.”

  1. تفاوض مع الخميني (1979):

بعد الثورة الإسلامية، كان قاسملو أول من جلس مع النظام الجديد بملف حقوقي لا عسكري. لكن ما بدأ باعتراف، انتهى بإراقة دماء. كانت تلك أولى إشارات أن الشعارات الدينية لا تمنع الغدر.

  1. استقلالية الموقف الدولي:

كان صديقًا لرجال موسكو، لكنّه لم يبع كوردستان لأحد.

“من يبيعها للروس اليوم، سيبيعها للأمريكان غدًا.”

هذا ما قاله، وبه عاش.

  1. النهاية: رصاص في فيينا (1989):

دخل إلى الاجتماع معتقدًا أن السياسة يمكن أن تحقن الدم. خرج منه جثةً باردة. آخر ما قاله لمرافقه قبل الاجتماع:

“إذا لم أخرج، فاعلم أنني قتلتُ من أجل السلام، لا ضده.”

ما الذي تركه قاسملو؟

أكثر مما نتصوّر، وأقل مما نستحق.

مبدأ لا يُنسى:

“تفاوض وكأنك تمتلك جيشًا، وقاتل وكأنك تمتلك دبلوماسية.”

جملة واحدة تختصر فلسفته. لو فهمتها القوى الكوردية اليوم، ربما كنّا في مكان آخر.

تحذير من الغرب: قالها بوضوح:

“الغرب لا صديق له سوى مصلحته.”

ومع انسحاب القوات الأمريكية من روجآفا في 2019، بدا أن الزمن أثبت له صواب رؤيته.

ثقافة لم تكتمل: أسّس نواة أول موسوعة كوردية أكاديمية، لكنها فُقدت مع مقتله. بقيت أجزاء منها مبعثرة في أرشيفات روسية لا أحد يعرف مصيرها.

ماذا لو عاد اليوم؟

ربما سيشعر بالخديعة. أحزاب كانت رفاق درب تحوّلت إلى صناديق بريد تنتظر التمويل.

كوردستان التي حلم بها لا تزال على الورق.

الوحدة التي نادى بها تمزّقها مصالح فصائلية ضيقة.

لكنّه بالمقابل سيبتسم حين يرى شابًا كورديًا في برلين أو هولير أو قامشلو، يصنع محتوى سياسيًا بالعربية والإنجليزية والكوردية، يتحدث عن الحرية بطلاقة، وبلا خوف.

الخاتمة: حين يصبح الدم كتابًا

لم يكن عبد الرحمن قاسملو ملاكًا، لكنه كان رجلًا نادرًا.

قتلته رصاصات فيينا، لكنها لم تقتل فكرته.

وإن كانت السياسة قد اغتالت جسده، فإن حلمه ما زال يتنفس في جيلٍ جديد لا يشبه زمن قاسملو، لكنه يحمل بعضًا من وضوحه.

الزعماء يموتون جسدًا، لكن إذا كانت الفكرة نقية… فالثورات لا تموت.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

مسلم شيخ حسن – كوباني يصادف الثامن من كانون الأول لحظة فارقة في التاريخ السوري الحديث. ففي مثل هذا اليوم قبل اثني عشر شهرًا انهار حكم عائلة الأسد بعد أربعة وخمسين عاماً من الدكتاتورية التي أثقلت كاهل البلاد ودفعت الشعب السوري إلى عقود من القمع والحرمان وانتهاك الحقوق الأساسية. كان سقوط النظام حدثاً انتظره السوريون لعقود إذ تحولت سوريا…

زينه عبدي ما يقارب عاماً كاملاً على سقوط النظام، لاتزال سوريا، في ظل مرحلتها الانتقالية الجديدة، تعيش واحدة من أشد المراحل السياسية تعقيداً. فالمشهد الحالي مضطرب بين مساع إعادة بناء سوريا الجديدة كدولة حقيقية من جهة والفراغ المرافق للسلطة الانتقالية من جهة أخرى، في حين، وبذات الوقت، تتصارع بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية للمشاركة في تخطيط ورسم ملامح المرحلة المقبلة…

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…