المبعوث الأمريكي الذي ضلّ الطريق

د. محمود عباس

 

 كيف تحوّل توماس باراك إلى أداة تركية لتصفية الكورد؟

في عالم السياسة، لا تُقال الحقائق كلها دفعة واحدة، بل تُمرَّر أحيانًا في طيّات التصريحات، وتُخبَّأ خلف الكلمات المنمّقة، ولعلّ ما قاله توماس باراك مؤخرًا، باسم “الحل السوري” و”وحدة الدولة”، لم يكن مجرّد رأي دبلوماسي، بل إشارة مشفّرة إلى هندسة سياسية تُطبخ في الغرف الخلفية، لم يكن حديثه عن “الحكومة الانتقالية” سوى واجهة لمشروع أعمق، يُراد تمريره بصمت، صفقة متعددة الأطراف، تتداخل فيها مصالح تركيا والنظام السوري، ويُستخدم فيها الطرف الكوردي كورقة ضغط وتنازل.

بل إن باراك، وهو يلوّح بهذه المفردات المستهلكة، بدا كمن يعبّد الطريق لغاية أخرى تمامًا، تسويق التطبيع بين دمشق وتل أبيب، عبر البوابة الكوردية، باعتبارها، من وجهة نظره، الحلقة التي يمكن إخضاعها بسهولة، وتحويلها من شريك استراتيجي إلى وسيط تكتيكي، وهي مقامرة سياسية، إن ثبتت خيوطها، قد تضعه لاحقًا تحت مجهر الكونغرس الأمريكي، وتعرّضه لإدانة بوصفه منحرفًا عن المسار المعلن للإدارة الأمريكية.

تصريحات توماس باراك الأخيرة كشفت بوضوح عن جوهر مهمته الفعلية، فهي لا تنبع من رؤية أمريكية مستقلة لحلّ الأزمة السورية، بل تأتي ضمن مساعٍ ممنهجة لفرض إملاءات تركيا والنظام السوري على الأطراف الكوردية، بدءًا من قوات سوريا الديمقراطية، مرورًا بالإدارة الذاتية، وصولًا إلى الهيئة الكوردية المنبثقة عن كونفرانس قامشلو، ما يسعى إليه باراك ليس حلًا سوريًا عادلًا، بل صفقة سياسية مفروضة، تكون فيها القضية الكوردية الحلقة الأضعف المطلوب تصفيتها سياسيًا.

ويبدو التناقض جليًا بين خط باراك وخط المستشار الأمريكي السابق وليد فارس، الذي صرّح بوضوح في مقابلته مع قناة روداو بأن واشنطن، في عمق استراتيجيتها، تدعم قوات سوريا الديمقراطية، وترى في الشعب الكوردي شريكًا رئيسيًا في محاربة الإرهاب واستقرار المنطقة، أما باراك، فيتنقّل في تصريحاته بين التهديد المبطّن ومحاولات الإقناع الدبلوماسي، وكأن مهمته تحوّلت من رعاية العملية السياسية إلى تسويق نسخة من النظام السوري، تتوافق مع مصالح أنقرة ودمشق، لا مع تطلعات الشعب السوري ومكوناته الحقيقية.

والأخطر من كل ذلك، أن باراك يتبنّى خطابًا مستهلكًا عن “وحدة سوريا” و”الحكومة الانتقالية”، وهو ذات الخطاب الذي استُخدم لعقود لإنكار التعددية القومية والدينية، ولقمع كل صوت يطالب بالاعتراف بالحقوق. إنه يحاول تقزيم القضية القومية الكوردية في سوريا، دون وعي تاريخي أو إدراك سياسي لها، في وقت أصبحت فيه هذه القضية إحدى أهم الملفات المفتوحة في الشرق الأوسط، كان الأحرى به أن يستقرئ ما يجري اليوم في تركيا من صراعات داخلية، ليفهم أن القمع القومي لا يولّد إلا الانفجار، وأن الحلول المفروضة لا تعيش طويلًا.

استسهاله تكرار شعارات مثل “حكومة واحدة، شعب واحد، وجيش واحد” يُعيد إلى الأذهان الميراث البعثي المتعفن، وهو في الوقت ذاته يعكس تأثره العميق بالمنهج التركي القومي، المستمد من الدكتاتورية الكمالية، التي ما زالت تنكر على الكورد حتى لغتهم واسمهم. لقد أصبح باراك، دون أن يدري أو ربما بوعي تام، أداةً لتصدير هذا النموذج التركي إلى الداخل السوري، مستعيرًا المنطق ذاته، ادمج الكورد في الدولة، لا اعترافًا بهم، بل مسخًا لهويتهم.

وهذا بالضبط ما يفسّر استعانته بالمنظور التركي في فهم الجغرافيا السورية، متناسيًا أن سوريا ليست مجتمعًا مهاجرًا كالمجتمع الأمريكي، بل نسيجٌ تاريخي معقّد من القوميات والأديان والمذاهب المتجذرة منذ آلاف السنين. فلو كان صادقًا في رؤيته، لما تجرّأ على طرح مثل هذا النموذج المختزل على سوريا، بينما لا يجرؤ على طرحه في وجه الأوروبيين، مطالبًا إيّاهم بالتخلي عن قومياتهم لصالح “أمة أوروبية موحدة تحت الراية الألمانية”، مثلًا.

هذه الازدواجية تكشف عن جهل دبلوماسي لا يُستهان به، وتدل على انفصال مقلق عن الواقع السوري المركّب، وتجاهلٍ متعمد لعقود من القمع القومي الذي عاشه الكورد وغيرهم من المكونات، وهي أيضًا انعكاس لتأثير اللوبي التركي داخل غرف القرار، بما فيها الدوائر التي تدّعي الحياد. وربما لن يطول الوقت قبل أن يتلقى باراك ردودًا قاسية، إما من داخل المؤسسة الأمريكية ذاتها، أو من أطراف دولية تدرك عمق الملف الكوردي وخطورة تفريغه من مضمونه.

من هنا، فإن مسؤولية الحراك الكوردي، بكل أطيافه السياسية والمدنية والعسكرية، ألا يتهاون مع هذه الطروحات التي تقزّم الوجود الكوردي، وتفرغه من مضمونه، وألا يرضخ لأي مشروع لا يضمن الاعتراف الصريح والفوري بالحقوق القومية والدستورية للكورد. فالصمت الآن ليس حكمة، بل تواطؤ، والردّ يجب أن يكون حاسمًا، سياسيًا وشعبيًا، يعبّر عن وعي جماعي يدرك أن ما لم يُنتزع بالنضال، لن يُمنح على موائد المساومات.

إن منطق الاندماج القسري قد سقط، ومنطق الهيمنة بواجهة التحالفات قد انكشف، ولم يعد أمام الكورد سوى تثبيت حضورهم كفاعل لا كضحية، وكشريك لا كأداة، وإلا فإن ما لم تأخذه الأنظمة بالحرب، ستأخذه بالإملاءات وتواقيع السفراء.

 

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

11/7/2025م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…