عدنان بدرالدين
تتصاعد في الآونة الأخيرة تقارير وتسريبات صحفية تتحدث عن لقاءات مزعومة بين ممثلين عن الإدارة السورية الجديدة، بقيادة أحمد الشرع، ومسؤولين إسرائيليين، يُقال إن بعضها جرى مؤخرا في باكو، على الأرجح بوساطة تركية – أذرية. هذه التسريبات، التي لم تُؤكَّد رسميًا، تعكس اتساع الحديث في الدوائر السياسية والإعلامية العربية عن احتمال تقارب سوري – إسرائيلي جديد، بل و”تطبيع محتمل”. غير أن هذا الطرح، رغم ما يحمله من إثارة للفضول، لا يزال حتى الآن أقرب إلى الاجتهاد التحليلي منه إلى الواقعية السياسية.
في نظر تل أبيب، لم تعد سوريا ما بعد الأسد تمثل خطرًا وجوديًا، بل باتت مجرد جغرافيا ممزقة تتنازعها كيانات متعددة، تتصارع على السلطة والموارد، وتخضع لنفوذ خارجي متشابك، وهو واقع لا تغيّره التصريحات “المتفائلة” التي تصدر أحيانًا عن توم باراك – الموفد الأميركي الخاص إلى سوريا. تركّز إسرائيل جلّ اهتمامها على الجنوب السوري، حيث تتمحور حساباتها الأمنية. فهي لا تبحث عن سلام شامل أو تطبيع سياسي مع سلطة ضعيفة، محدودة الشعبية، وجهادية الخلفية، تبدو عاجزة عن بسط سيطرتها على كامل التراب السوري. ما يهم حكومة نتنياهو وفريقه هو الحصول على ضمانات أمنية بعدم تمركز فصائل معادية أو وكلاء لطهران قرب حدود الجولان، مستغلين هشاشة النظام الجديد وضعف قدراته العسكرية. في هذا السياق، قد تلجأ إسرائيل إلى تفاهمات نفعية مؤقتة مع الجهات الفاعلة على الأرض، سواء عبر وسطاء أو من خلال مفاوضات سرّية، لكنها لن تسعى بالتأكيد إلى “إضفاء شرعية” سياسية على سلطة مثيرة للجدل، لم تحظَ حتى الآن بأي اعتراف دولي ذي شأن.
أما هيئة تحرير الشام، التي باتت تتصرف كسّلطة أمر واقع فعلية بعد سيطرتها على مساحات واسعة من سوريا في نهاية العام المنصرم، فهي تحاول تقديم نفسها كـ”حزب حاكم”، وتدفع بواجهة سياسية براغماتية متمثّلة بأحمد الشرع. لكن حتى اللحظة، لم تُجرِ الهيئة مراجعة عقائدية حقيقية لموقفها من إسرائيل. لا تزال معظم قياداتها، إلى جانب حاضنتها الشعبية، تتبنى خطابًا عدائيًا راديكاليًا تجاه “الكيان الصهيوني”، وتبدي تعاطفًا علنيًا مع حركة حماس والقضية الفلسطينية عمومًا. وأي انفتاح على إسرائيل سيُفجّر التناقض القائم بين “براغماتية الحكم” و”إرث الجهاد”، ما قد يؤدي إلى انقسامات داخلية، وربما إلى فقدان صورة الشرع كـ”منقذ”، لصالح تصور شعبي يراه انتهازيًا يساوم على المبادئ في سبيل السلطة.
غير أن الضغوط ليست داخلية فحسب. فالسلطة الجديدة في سوريا، بسبب محدودية الاعتراف الدولي بها، تعتمد في استمرارها على توازن دقيق يشمل غطاءً تركيًا غير معلن، ودعمًا قطريًا مموّهًا، بالإضافة إلى تماهٍ نسبي مع الخطاب العام لجماعة الإخوان المسلمين. ورغم براغماتية هذه الحواضن الثلاث، فإن مواقفها السياسية والأيديولوجية لا تزال رافضة لأي تطبيع مع إسرائيل. فتركيا، رغم عمق علاقاتها مع تل أبيب، لا يمكنها تحمّل تبعات دعم كيان إسلامي يُطبّع مع إسرائيل دون أن تواجه ثمنًا شعبيًا باهظًا. أما قطر، التي تستضيف قيادة حماس، وتتبنّى خطابًا إعلاميًا منحازًا للسردية الفلسطينية، فستجد نفسها في مأزق إذا اضطرت إلى دعم سلطة على نقيض مباشر من هذا التوجه. وبالنسبة للإخوان المسلمين، فإنهم يفتقرون إلى أي مبرر ديني أو سياسي يمكن أن يُضفي مشروعية على خطوة تطبيعية من هذا النوع، حتى لو بدت صادرة عن حليف غير رسمي لهم.
على صعيد المزاج الشعبي السوري، فإن الانقسامات السياسية والاجتماعية الحادة لم تُلغِ عموما وجود نقطة التقاء راسخة: مركزية القضية الفلسطينية كقضية وطنية جامعة. لم يظهر حتى الآن تيار جماهيري معتبر داخل الحياة السياسية السورية يروّج للتطبيع كخيار استراتيجي. بل إن أي تقارب مع إسرائيل، في غياب حل عادل للقضية الفلسطينية، سيُفهم على أنه “صفقة مشبوهة” هدفها تثبيت السلطة لا أكثر. وهذا الوعي العام، المتجذر رغم كل التحولات، يبقى عائقًا رئيسيا أمام أي انفتاح علني محتمل، سواء من النظام الجديد أو من غيره.
أقصى ما يمكن تصوّره واقعيًا هو تفاهم أمني محدود، أو تنسيق ميداني غير معلن، ربما يشمل ضمانات إسرائيلية – سورية بعدم التصعيد على جبهة الجولان، أو ترسيم خطوط حمراء تضمن استقرارًا نسبيًا للحدود. لكن هذا النوع من التفاهمات، إن حصل، لن يرقى إلى مستوى التطبيع السياسي أو الاعتراف المتبادل، بل سيظل تدبيرًا تكتيكيًا مؤقتًا تفرضه الضرورة وتحدده الحسابات الظرفية.
في المحصلة، يبدو الحديث عن تطبيع وشيك بين نظام الشرع وإسرائيل، في المرحلة الراهنة، مستبعدًا بفعل معوقات داخلية وإقليمية يصعب تجاوزها. فلا إسرائيل مستعدة لمنح الشرعية لكيان محدود التمثيل، يحمل تاريخًا عدائيًا طويلًا تجاهها، ولا الشرع قادر على المجازفة بتحمّل كلفة الاصطدام بجذوره العقائدية، وتحالفاته الإقليمية، والمزاج الشعبي العام. ما نراه حتى الآن لا يتعدّى تفاهمات أمنية صامتة، وضبطًا متبادلًا لإيقاع العلاقة المضطربة بين الطرفين. أما التطبيع، بمفهومه الحقيقي، فلا يزال مؤجلًا إلى إشعار آخر… إن لم يكن مستحيلًا.
13 تموز 2025