حين يتغيّر الزمن.. فإمّا أن نكون أو لا نكون

حوران حم

كانت الريح دائمًا تهبُّ من الجهة المعاكسة، منذ أن قُسمت الخرائط على وقع مؤتمرات المنتصرين، وسُحقت أحلام الكُرد تحت أقدام الدول الوليدة، حيث لم يُمنح هذا الشعب لا دولة، ولا حكمًا ذاتيًا، ولا حتى حقًا بسيطًا في لغته وثقافته، فقط قمع وتشريد وطمس ممنهج.

ومع ذلك، لم يتوقف الكُرد عن السعي. توارثت الأجيال الرفض، وتحوّل الحلم بالحرية إلى نمط حياة، حتى في أقصى ظروف النفي والسجون والمجازر. واليوم، بعد قرن من الخذلان والخذعة، تبدو الأرض تحت أقدامنا وكأنها تعيد ترتيب ذاتها. هناك شيء كبير يحدث في الإقليم. أنظمة كانت تبدو أبدية تتشقق، تحالفات عتيدة تنهار، وميليشيات عابرة للحدود تفقد قوتها ورمزيتها. من طهران إلى بغداد، من الضاحية إلى غزة، خيوط المشروع القديم تتمزق.

في قلب هذا المشهد، يبرز السؤال الأكثر حساسية وخطورة: هل سينجح الكُرد — هذه المرة — في أن يكونوا فاعلين في صناعة التاريخ، لا ضحاياه؟

التحولات الكبرى: بين سقوط المشاريع وشروق الفرص

لم تعد السيطرة الإقليمية الإيرانية عبر الميليشيات كما كانت. صواريخ المقاومة لم تعد تحسم، والعواصم التي كانت تدور في فلك طهران بدأت تبحث عن خلاصها. في العراق، تتصدع جدران المحاصصة الطائفية. في لبنان، المقاومة تتآكل سياسيًا واقتصاديًا. في سوريا، تُعاد صياغة المعادلة.

وها هي دمشق اليوم، تتهيأ لحكومة جديدة تحمل اسم “الشرع”، في مؤشر على تحوّل سياسي جدي. هذه ليست مجرد إدارة انتقالية، بل قد تكون بداية صفحة جديدة من تاريخ سوريا — صفحة لا بد أن يُكتب فيها اسم الكرد، لا بالحبر فقط، بل بوزن التضحيات والدماء التي دُفعت منذ أول مظاهرة في قامشلو إلى آخر معركة على أسوار كوباني.

إنّ اللحظة الراهنة ليست عادلة بطبيعتها. لكنها مرنة، وقابلة لأن تتشكل وفق من يملك الجرأة والرؤية لاقتناصها. وهنا، يكمن التحدي الأكبر.

الكرد بعد 26 نيسان: من المؤتمرات إلى الفعل السياسي الحقيقي

شكّل كونفرانس في 26 نيسان محطة مفصلية، لا فقط من حيث الوثائق والبيانات، بل من حيث الوعي الجديد الذي بدأ يتشكل داخل بعض النخب السياسية. الوعي بأن الخطابات القديمة لم تعد تكفي، وأن معادلة “نحن نطالب وهم يقمعون” قد أصبحت مفرغة من أي مضمون.

لكن هل تكفي البيانات؟ هل تكفي اللقاءات والخطابات والتصريحات؟

الجواب واضح: لا. فالقضية الكردية في سوريا لم تعد قضية “مطالب” بقدر ما هي اليوم قضية شراكة في بناء سوريا الجديدة. ومن لا يكون شريكًا في التأسيس، سيكون غريبًا في المستقبل.

ولهذا، فإن الحلّ لا يكمن فقط في بيانات الأحزاب، بل في تحرك الشارع. في الوعي الجماهيري. في تحوّل الكردي البسيط — الفلاح والعامل والمرأة والشاب — من متلقٍّ للأحداث إلى صانع لها.

دعوة إلى مؤتمر وطني كردي سوري: من أجل المستقبل

ما نحتاجه اليوم ليس مؤتمرًا حزبيًا جديدًا، بل مؤتمرًا وطنيًا سوريًا-كرديًا جامعًا، يخرج من عباءة الأحزاب التقليدية، ويضم كل من يحمل همّ القضية:

أحزاب سياسية ذات وزن حقيقي.

منظمات مجتمع مدني.

الشباب الناشطون في الساحات والجامعات.

النساء اللواتي يشكّلن اليوم إحدى أعمدة النضال المجتمعي.

شخصيات أكاديمية وثقافية قادرة على صياغة خطاب جامع.

على هذا المؤتمر أن يكون نابعًا من الداخل الكردي السوري، وألا يخضع لأي إملاءات خارجية — لا من قوى كردستانية ولا من دول الجوار. نعم، نرحب بالدعم، لكننا نرفض الوصاية. فقرارنا يجب أن يولد في قامشلو، لا في قنديل، سليمانية ، اربيل ، ويُصاغ في الحسكة وكوباني وعفرين، لا في أنقرة أو طهران أو بغداد.

 

هذا المؤتمر يجب أن يضع أساسًا واضحًا لمطالبنا:

الاعتراف بالشعب الكردي كمكوّن قومي أصيل.

الاعتراف بحق تقرير المصير ضمن إطار سوريا موحدة ديمقراطية.

حماية الحقوق اللغوية والثقافية.

صياغة دستور جديد بمشاركة فعلية للكُرد.

تفكيك العقلية الشوفينية في مؤسسات الدولة.

 

على الشارع أن ينهض

كل التجارب التاريخية تقول إنّ التحوّلات الكبرى لا تصنعها النخب وحدها. فلو انتظر الكُرد في كوباني قرارات السياسيين لما انتصروا في 2014. ولو انتظر أهل عفرين وشنكال قرارات العواصم، لما واجهوا المحتلين كما فعلوا.

اليوم، على الشارع الكردي أن ينهض. على الناس أن يدركوا أنهم يملكون صوتًا، وأنهم أصحاب القضية الحقيقيون. لا نريد ثورات جديدة، بل وعيًا جديدًا، ووجودًا جماهيريًا فاعلًا، قادرًا على الضغط، وعلى مساءلة النخب، وعلى حماية القرار الوطني من البيع والمقايضة.

 

 لا تكرروا خطأ التاريخ

التاريخ لا يُعاد، لكنه يُخطئ. وكم من مرة أخطأ الكرد حين وثقوا بوعود الخارج، أو راهنوا على خلافات الآخرين، أو صدقوا أن هناك من سيمنحهم الحرية عن طيب خاطر.

اليوم، نحن أمام فرصة لا تُقدّر بثمن. هناك شرخ في الجدار. وهناك بصيص نور. فإن لم نكن مستعدين لعبوره، فإننا نكون قد أضعنا واحدة من أعظم الفرص التي منحها لنا الزمن، وهو لا يمنح كثيرًا.

فلتكن خطوتنا القادمة، مؤتمرًا كرديًا سوريًا حرًا، جامعًا، جريئًا، يحمل في طياته روح الشارع، ووعي المعركة، وصدق الحلم.

وحينها نستطيع أن نقول: نحن من قرّر… لا أحد قرّر عنا.

 

شارك المقال :

4.5 2 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…