عدنان بدرالدين
في مقالٍ نُشر مؤخرًا على موقع الجزيرة نت بعنوان “دروس سوريا الجديدة من حرب إيران وإسرائيل”، يدعو الكاتب – ولو مواربة – الدولة السورية الناشئة إلى استلهام تجربة إسرائيل في بناء منظومة ردع مرنة وفعالة، متخذًا من المواجهة العسكرية الأخيرة بين تل أبيب وطهران نموذجًا يُحتذى به. وبين سطور المقال تبرز دعوة ضمنية إلى محاكاة إسرائيل، لا فقط في تكتيكات الضربة الأولى وطرائق الاستهداف، بل في صياغة عقيدة دفاعية متكاملة. غير أن هذا الطرح، رغم ما يبدو فيه من مثابرة فكرية، يعاني من خلل بنيوي واضح، يتمثل في إسقاط نموذج نشأ في سياق مؤسساتي مستقر على واقع سياسي هشّ يفتقر حتى اللحظة إلى أبسط مقومات الدولة الحديثة.
إسرائيل ليست مجرد ترسانة عسكرية متقدمة مدعومة من حلفاء دوليين، كما تُختزل غالبا، بل هي كيان سياسي – مؤسساتي متماسك، يستمد شرعيته الداخلية من بنية ديمقراطية مرنة وفعالة، قادرة على اتخاذ القرار وتوزيعه وتنفيذه بكفاءة في اللحظات الحرجة. أما سوريا الجديدة، الخارجة بالكاد من أنقاض حرب أهلية مدمرة ومنظومة استبداد غارقة في الفساد، فهي تفتقر إلى مؤسسات فاعلة، وإلى إجماع وطني، وقبل كل شيء إلى قيادة سياسية شرعية. فالردع لا يُختزل في عدد الصواريخ والطائرات أو في كفاءة غرف العمليات، بل هو فعل سياسي قبل أن يكون عسكريًا، وهو ثمرة تراكم طويل في بناء التماسك المجتمعي والقدرة المؤسساتية على إدراك التهديد وتقدير اللحظة واتخاذ القرار المناسب.
لا الدولة السورية الراهنة، ولا بنيتها العسكرية أو المدنية، ولا بيئتها السياسية والاجتماعية، مؤهلة بعد لتبنّي عقيدة ردع كتلك التي يروّج لها المقال. والأخطر أن الكاتب يستشهد بالمنظّر الاستراتيجي كولن غراي* وكأن أفكاره وصفات جاهزة قابلة للتطبيق في كل سياق، متجاهلًا أن غراي كان يفترض وجود دولة مستقرة، ذات مؤسسات متماسكة، تتعامل مع الاستراتيجية كوظيفة مركبة من السياسة والجيش والمجتمع. غراي لم يكن يُنظّر ل”حركات مقاومة” أو تنظيمات جهادية صعدت إلى الحكم في ظروف استثنائية، بل لدول تمتلك أدوات سيادية متكاملة وتستوعب موقعها بدقة في النظام الإقليمي والدولي.
الاستراتيجية عند غراي ليست مجرد خطة تقنية، بل انعكاس مباشر لطبيعة الدولة: ثقافتها، شرعيتها، علاقتها بمواطنيها، ورؤيتها لمكانتها في العالم. لذلك فإن استدعاءه في السياق السوري يبدو تعسفيًا، بل يُعادل وضع نظرية قيادة طائرة حديثة بين يدي من لم يتعلم بعد ركوب دراجة هوائية. أما الحديث عن “قيادة موزعة”، و”ردع سيبراني”، و”مراكز تحكم بديلة”، فلا يتجاوز حدود التنظير في الهواء، في بيئة لا تزال تبحث عن اسمها، عن دستورها الحقيقي، عن شكل حكمها، وعن مدى سيادتها الفعلية.
إن خطورة هذا النوع من الطرح تكمن في أنه يُنتج وهمًا استراتيجيًا، يوحي بإمكانية بناء عقيدة ردع مستقلة قبل إعادة بناء الدولة نفسها، ويقفز فوق الحاجة إلى صياغة عقد اجتماعي جديد يعبر عن مصالح المكونات السورية المتنوعة، ويؤسس لمؤسسات حُكم وعدالة حقيقية جامعة.
لا جدوى من مناقشة الضربة الأولى أو الهجمات السيبرانية أو الجاهزية العملياتية، ما لم تكن هناك إرادة وطنية شرعية ومستقلة قادرة على اتخاذ مثل هذه الخيارات المصيرية. فالدولة التي لا تزال أسيرة التجاذبات الفصائلية، والتدخلات الإقليمية والدولية، والانقسام الإداري، لا يمكنها تطبيق نماذج الردع المصممة لدول ذات استقرار سياسي وثقافي. ما تحتاجه سوريا اليوم ليس محاكاة إسرائيل، بل – ربما – إستلهام تجربة دول أوروبا الغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية: مصالحة وطنية شاملة، إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس تمثيلية حقيقية، تأسيس نظام يضمن العدالة والمشاركة المتساوية لجميع مكونات المجتمع، وربط المؤسسة العسكرية بإرادة الشعب لا بطموحات الزعيم الفرد.
الردع لا يُبنى في ميدان المعركة، بل في قلب الدولة. ومن لا يملك قيادة شرعية ومؤسسات مدنية قوية، لا يمكنه أن يخوض حربًا استراتيجية ولا أن يتجنبها بحكمة. وإذا كان كولن غراي قد علّمنا شيئًا، فهو أن الاستراتيجية ليست علمًا منفصلًا عن سياقه، بل مرآة للدولة ذاتها. ومن لا يملك دولة متماسكة، لا يمكنه أن يملك استراتيجية فاعلة.
27 حزيران 2025
* كولن إس. غراي (Colin S. Gray)
مفكر استراتيجي بريطاني يُعد من أبرز من طوّروا نظرية الردع وفكر الحرب في العصر الحديث. شغل مناصب أكاديمية واستشارية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. كتب غراي العديد من الكتب عن الاستراتيجية، أبرزها “الاستراتيجية الحديثة” و”قرن دموي آخر: حرب المستقبل”. تميز بفهم شامل للعلاقة بين السياسة والحرب، وركز على أن الاستراتيجية لا تنفصل عن السياق الثقافي والمؤسساتي للدولة.