بوتان زيباري
ما زال المشهد السياسي يُحاك بخيوطٍ من الغموض، تتداخل فيها الأحداث السريعة مع التأويلات البطيئة، كأنما التاريخ يعيد كتابة نفسه بلغةٍ من الرماد والدخان. ففي مساء الأمس، عند منعطف الساعة السابعة، انفجر الواقع فجأةً بضربة صاروخية إيرانية على القاعدة الأمريكية في “العديد” القطرية، كأنها رسالةٌ محفوفةٌ باللهب والحديد، تلتها إشاعاتٌ عن ضرباتٍ أخرى في العراق. ثم جاء رد قطر، متحفظًا بحق الرد، كمن يمسك بورقةٍ أخيرة في لعبةٍ مصيرية. وبعد ساعات، عند منتصف الليل، تحوّل الموقف إلى وساطةٍ قطريّة لوقف إطلاق النار، ليعلن الرئيس الأمريكي لاحقًا اتفاقًا هشًّا عند الرابعة فجرًا بتوقيت طهران. لكنّ المفاجأة كانت كالخنجر الهادئ: هجومٌ إيرانيٌّ جديدٌ على إسرائيل، ليُطرح السؤال الأكبر: هل نحن أمام هدنةٍ مؤقتة، أم أن الحرب تُخفي تحت رمادها جمرًا لم ينطفئ؟
هذا الضباب الذي يلفّ المشهد لا يختلف عن ضباب التاريخ نفسه، حيث تُكتب النهايات قبل أن تُفهم البدايات. فقبل نصف ساعةٍ من هذا النقاش، كان الإعلام الإسرائيلي يترنح بين شعورين: انتصارٌ مُتخيَّل، أو حربٌ لم تنتهِ بعد. فهل نتعامل مع هذه الضربة كاستثناءٍ عابر، أم أنها إشارةٌ إلى أن طهران ما زالت تلوح بخياراتها، كشخصٍ يتراجع خطوةً ليُقدّم ضربةً أقسى؟ الساعات القادمة ستكشف، لكنّ التصريحات الإسرائيلية، مثل تصريح وزير الدفاع “يؤاف غالانت” عن ردٍّ “مزلزل” لأي خرق، تُذكّرنا بأنّ العنف قد يكون لغةً وحيدةً في حوار الأضداد.
الانتصار الوهمي والنشوة العابرة
في قلب هذا المشهد، تُطرح أسئلةٌ وجودية: ما الذي حققته إسرائيل بعد اثني عشر يومًا من الحرب؟ لقد حدّد “نتنياهو” أهدافًا ثلاثة: تقويض البرنامج النووي الإيراني، تحييد تهديد الصواريخ الباليستية، وتجفيف منابع الإرهاب المدعوم من طهران. لكنّ السؤال الفلسفي الأعمق: هل يمكن قياس النصر بأعداد القتلى، أم بزعزعة الروح المعنوية للخصم؟ التقييمات الإسرائيلية تتحدث عن “نصرٍ نسبي”، حيث أعادت الضربات البرنامج النووي سنواتٍ إلى الوراء، لكنها لم تقضِ عليه. هل هذا كافٍ؟
هنا نستحضر “نشوة 1967″، ذلك الشعور بالتفوق الذي اختبرته إسرائيل بعد حرب الأيام الستة، حين تحوّل الانتصار العسكري إلى أسطورةٍ قومية. اليوم، يعيش الإسرائيليون نشوةً مشابهة، مدعومةً بارتفاع الثقة في مؤسسات الدولة، كالموساد (82%) والحكومة (من 23% إلى 30%). لكنّ التاريخ يُعلّمنا أن النشوة قد تكون مقدمةً للسقوط، كما حدث بعد انتصار 1973 الذي تبعه صدمة “حرب أكتوبر”. فهل يُدرك الإسرائيليون أنهم يبنون انتصارًا على رمالٍ متحركة؟
السيناريوهات المُظلمة: بين التهريب والنووي الخفي
في زوايا الغرف المغلقة، تُناقش سيناريوهاتٌ أكثر قتامة. فبعض المحللين يتحدثون عن احتمال تهريب إيران لليورانيوم المخصب إلى كوريا الشمالية أو باكستان، كي تُجري تجاربها النووية بعيدًا عن الأعين. هل هذا مجرد خيالٍ استراتيجي، أم أنه كابوسٌ قد يصبح حقيقة؟ السيناريو الآخر هو انسحاب إيران من معاهدة الحدّ من الانتشار النووي، وإعلانها امتلاك القنبلة، كردٍّ على الضربات. هنا يصبح السؤال: هل كانت الحرب وسيلةً لتعطيل البرنامج النووي، أم دافعًا لإيران لتسريعه؟
الجدار الحديدي: فلسفة القوة التي لا تنتهي
لا يمكن فهم الاستراتيجية الإسرائيلية دون العودة إلى “عقيدة الجدار الحديدي” التي صاغها “زئيف جابوتنسكي” عام 1922. فالفكرة الأساسية هي أن المستعمَر (الفلسطيني) لن يقبل بالمستعمِر (الصهيوني) إلا إذا فَقَدَ الأمل في المقاومة. وهذا يتطلب، بحسب جابوتنسكي، “ضربًا ضربًا ضربًا حتى الانهيار”. اليوم، يُطبّق “نتنياهو” هذه العقيدة بحذافيرها: ضرب غزة، تدمير سوريا، مواجهة حزب الله، والآن ضرب إيران. الهدف؟ “شرق أوسط جديد” بلا تهديدات، حيث تُهيمن إسرائيل بقوةٍ لا تُقهر.
لكنّ الفلسفة تُعلّمنا أن القوة المطلقة تُنتج مقاومةً مطلقة. فهل يُدرك “نتنياهو” أن جداره الحديدي قد يصبح سجنًا لإسرائيل نفسها؟
الخاتمة: هدنة أم هدوء ما قبل العاصفة؟
اللحظة الراهنة تشبه مقطعًا من مسرحية بانتظار نهايتها. فوقف إطلاق النار الحالي قد يكون مجرد فاصلٍ في حربٍ أطول، خصوصًا مع غياب الشروط التفاوضية الواضحة. ما الذي اتفقت عليه إيران وأمريكا وإسرائيل خلف الأبواب المغلقة؟ هل هناك ضماناتٌ بوقف التصعيد، أم أن الهدنة مجرد وقتٍ لإعادة ترتيب الصفوف؟
حتى هذه اللحظة، يبدو أن إسرائيل تعيش لحظةً من النشوة الاستراتيجية، لكنّ الأسئلة المصيرية ما زالت معلقة: مصير البرنامج النووي الإيراني، ومصير “اتفاقات إبراهيم” التي قد تتحول إلى أطلالٍ بفعل هذه الحرب. الساعات القادمة قد تحمل إجاباتٍ، أو قد تثبت أن الواقع أكثر تعقيدًا من أي تحليل. ففي النهاية، كما قال أحد الفلاسفة: “الحرب لا تُحدّد من هو على حق، بل من بقي على قيد الحياة.
السويد
24.06.2025