فرحان كلش
لا شيء يدعوا إلى الحزن على تحطيم حدود دول القهر، دول كانت نتائج مسخ لفكر استعماري، خطط كيف يبذر إمكانية عودته إلى مستعمراته القديمة، رسم الحدود التي لا تستقيم ولا تنسجم مع البعد التاريخي والجغرافي والديموغرافي للمنطقة.
دول أنشأت خارج سياقات الشرعية المجتمعية، بل كانت من نتائج عمليات احتيال موصوفة على الشعب الكردي، من خلال وفود تمثيلة قذرة، باعت شعبها، وضللت حقيقة رغباته، مستغلة جوانب من البعد الحضاري لدى الفئات المقررة لمصائر هذه الجغرافيا.
إنها دول مزاج سايكس-بيكو في لحظة سكر ولهو استعمارية، دول عاشت صراعاتها الداخلية منذ التأسيس ولم تنعم شعوبها بالراحة والطمأنينة طوال هذه العقود العبثية، تحت يافطة دول وطنية، ولكن بزعماء مرضى، لم يستطيعوا تجاوز الخطيئة التاريخية التي كانت بمثابة هبة وغفلة على شكل كراسي معمرة ومهداة لهم من مهودهم إلى لحودهم البائسة.
وفي خضام هذا العراك الذي يرافق انتهاء مئوية سايكس الإنگليزي وپيكو الفرنسي، تتعقد المشاهد في المنطقة، حروب وسقوط أنظمة وإنكفاء تنظيمات وصعود جهات أخرى، فوضى تُرعب البانين عروشهم على جماجم الآخرين، والكاميرا تُبرز أكثر الوجوه خوفاً من هذه الأحداث، والأكثر عويلاّ وصراخاً هو الرئيس التركي أردوغان الذي نصف دولته يخص الكرد والنصف الآخر للرومان، حيث كانت معركة ملاذكرد 1071ميلادية نافذة أجداده الدموية نحو أناضول بمساهمة كردية حاسمة أرضاً ومقاتلين، هو الأكثر قلقاً من المتغيرات التي تقرع أبواب المنطقة بقوة، ربما لأنه الأخير ويتلمس مصيره من مصير من سبقوه من الطغاة.
في صفحات هذا الصراع يمكن تذكر مصير الديكتاتور صدام حسين، ومصير وارث إمبراطورية المجرم أسد الأب القارض الصغير بشار الأسد، وأصابع عزرائيل التي تلاحق قادة إيران واحداً تلو الآخر، كيف إذاً لا يتوتر رابعهم، الفاسشتي أردوغان الذي هو إمتداد إجرامي لكل حكايا القتل والغدر الممارسة سلطانياً على مدار حكمهم على هذه الأرض البائسة والمخطوفة من أصحابها.
إن صراخ أردوغان يعلو بشكل غير مسبوق في اتجاهين، داخلي وخارجي، داخلي نحو الكرد، لأنه يدرك أن القبضة الكردية حاسمة في تحديد مصير كل تركيا، خاصة إن مستها الفوضى والقلاقل في لحظة ما، يطرح الآن مشروع مصالحة كاذب على الكرد بغية تضليلهم للمرة الألف، ويحاول مذلولاً أن يبدو عطوفاً على الكرد وحقوقهم، وطبعاً دون أن يطلب من برلمانه التصويت على أن تركيا تتكون من شعبين رئيسين ومن لغتين رئيستين، الأتراك والكرد، ودون نسيان بقية مكونات تركيا العرقية والطائفية، فقط يريد سلاماً بلا ثمن من الكرد من خلال تجريدهم من سلاحهم، ويصدر خطاب خارجي نحو العالم الإسلامي وخطورة إسرائيل على الأمة، وكأنه لا يعلم أن الجزء الأهم من الأمة الإسلامية تسير في ركب التفاهمات ضمن اتفاق الديانات الابراهيمية والذي جوهره التصالح وإدخال إسرائيل إلى حضن الأمة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
إن الدموع تكاد تترقرق في عيني أردوغان مع كل سقوط لديكتاتور في المنطقة، ومع كل توسع في الطوق الكردي بكياناتهم المختلفة التسميات حول دولته المسخ.
تبقى إيران في هذه اللحظة هي حصن أروغان الأخير، الجدار الفاصل بينه وبين نيران التغيير التي تلفح وجدانه وتحرق جبروته الذي أظهره في احتلالاته لمناطق الكرد في عفرين وگري سبي وسري كانيه، إنه يبدو مختلفاً هذه الأيام، يذكر اسم الكرد كثيراً، يسكت ويصمت عن سماعه كلمة كردستان داخل البرلمان التركي، أنها حالة الذعر التي تصيب الديكتاتوريات عادة، الظهور بأضعف صورهم، وتبطين وإخفاء هلعهم بكثير من الفشل.
إن المنطقة تتطلب فعلاً تغيرات بنيوية، وكان من المفترض أن يكون هذا التغيير بفعل داخلي، ولكن العقل الديكتاتوري دائماً يأبى مثل هذا التغيير، لأنه يشعر بأن عليه أن يكون محافظاً على ما ربّى الشعب عليه من معتقدات وسلوكيات، وغير ذلك سيكون تأسيساً لنظام بديل، وبذلك تعيش هذه المجتمعات حالات ركود ويأس إلى أن تتبخر المياه عن الملح، وتبدأ مراحل الرفض لما هو قائم، ودائماً بالوسائل المتاحة، ولكن للأسف غالباً مايكون العنف هو الفاصل، ومن المنطق أن تتكسر الديكتاتوريات أمام الشعب، ولكن ليس في هذا الشرق الملعون، حيث يتطلب سقوط نظام استحضار الخارج، وتنفيذ أفكار هذا الأخير في التغيير والبناء، حيث يستمر التأزم، وها نحن وصلنا إلى إجبارية التغيير الذي لا يتم هذه المرة فراداً بل بالجملة، تغيير أنظمة، وتغيير حدود، ولكن للأسف لأن ذلك نابع من رحم الظلم والتربية السياسية السيئة و المديدة، كثيراً ماتكون هذه التغييرات شكلية، وليست ذو بعد عميق وبنيوي.
وما يهمنا في هذه المرحلة هو أن نشهد حراكاً في النماذج القائمة، حيث الفشل المتراكم، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، إضافة إلى غياب الحريات الفردية والديمقراطية.
والكرد في هذه الجولة لديهم شعور بالانتصار على ظلاميهم وقاتليهم، وهذا الشعور ليس نابعاً من أنهم يحبون الحروب، بل لأن التاريخ قد راكم على ظهورهم سنوات من الطغيان، لذلك يريدون التغيير كيفما جاء، على شكل تغيير نظام، أم تغيير حدود، طالما لن تمسهم نار أكثر احتراقاً.