بين خناجر البعث وأوتار الأمل ملحمة التآلف السوري الذي لن يُدفن – 2/3

د. محمود عباس

 

يتيم البعث، يتنكر للحقيقة، ويتجاهل ما ورد في تقارير متصرفية الزور في عهد العثمانيين، وتقارير الإرساليات الفرنسية، وحتى في وثائق عصبة الأمم بعد الانتداب، والتي تؤكد أن القرى التي أُسست للعشائر العربية على الخابور كانت ممولة دوليًا لتوطين اللاجئين من الجنوب، وليسوا أهلًا أصليين في الأرض، هذا الإنكار لا يرقى لمستوى الخطأ المعرفي، بل هو فعل متعمد، يهدف إلى تقويض هوية الأرض وطمس تاريخها الحقيقي.

الجزيرة لم تكن، كما يدعي فلول صناع الموت، “محطة عبور”، بل كانت موطنًا لجذور عميقة، العشائر الكوردية من البرازية، والملية، والدقورية، والميرسنية، والخانزاد، والدوركية، والكوجرات، وغيرهم وما أكثرهم، وهم أحفاد صلاح الدين، وأبو مسلم الخرساني، والأمير بدرخان، وعبيد الله النهري، والشيخ سعيد بيران، كانت تسكن هذه الأرض قبل أن تولد فكرة الدول الوطنية الحديثة، وقبل أن يقطع الجراد حدود الانتداب البريطاني والفرنسي.

 لم تكن جغرافيا الجزيرة الكوردستانية سائبةً كما يريد تصويرها، بل كانت مأهولة بمدنٍ وقرى تعود بعضها إلى قرون خلت مسنودة بسندات تمليك خاقاني، كسندات قرية دوكر التي تعود إلى بداية 1800م وقوجانات لقرى تاريخية عديدة ما بين عفرين وديركا حمكو صادرة من الأستانة، وأثار اركيولوجية بعضها تعود إلى ثلاثة آلاف سنة وأكثر، كانت تشكل قلب كوردستان الثقافي والسياسي، بشهادات علماء الآثار الغربيين، من فراس أنطوان إلى غيرترود بيل (Gertrude Bell).

هذا التشويه السافر يهدف، بوضوح، إلى إعادة إنتاج منطق السلطة البعثية، الإنكار، والتجريم، والتخوين، إنه ليس مقالًا، بل بلاغًا من أحد أيتام البعث، بلغة رومانسية مريضة، موجهًا إلى جمهور النظام البائد، فهو لا يقرأ التاريخ، بل يبحث عن شماعة يعلّق عليها نكباته، يريدنا أن نصدق أن من عبروا الحدود في القرن العشرين هم “أصل الجزيرة”، بينما الكورد الذين عمروا جبالها وحرثوا سهولها وسقوا أنهارها، جاؤوا مع رياحٍ غادرة!

أية سفاهة فكرية هذه التي تجعل أحد أبواق صناع الموت يستعير “الجراد” كاستعارة لتوصيف الهجرة والاستيطان القسري لبعض القبائل، ثم يخلط بينها وبين الكيانات الأصيلة التي كانت، منذ آلاف السنين، مرعىً للأغنام، وحصنًا للغيم، وميدانًا لحضاراتٍ تسبق ظهور العقال والبعير؟! من قال إن الفرات لا يذكر أسماء مياهه الأولى؟! من قال إن تلال الجزيرة لا تحفظ أسماء رجالها ونسائها الكورد ممن ولدوا على قممها وتحت سمائها؟

إن أرشيف الرحالة الأوروبيين، ومنهم السيدة “جيرترود بيل” و”آن بلنت”، وكتابات “ماكس فون أوبنهايم” و”ميشيل دو غرافيني”، ليست قصصًا من الخيال، بل وثائق موثّقة ومؤرشفة لدى جامعات أوروبا وأمريكا، تثبت أن الجزيرة السورية، قبل أن تُسمّى كذلك، كانت موطنًا للكورد ولعشائرهم الكبرى كـ(الميران، الدقوري، البرازية، والملّيان، والدوركية والكوجر وغيرهم)، وأن القبائل العربية التي هاجرت بعد حروب حائل لم تكن يوماً من نسيج المنطقة الطبيعي، بل طارئة بحكم الجوع والتشريد والضياع، وهي نفسها التي يتحدث عنها البعثي دون أن يسميها، ويقدمها على أنها “الكلّ”، ثم يطالب الكورد بالتنازل والانصهار في ثقافة المستوطن.

هذا الكاتب، الذي أسمح لنفسي أن أصفه بالمزوِّر الوقح، يتناسى عن عمد أنّ الكورد في الجزيرة لم يكونوا طارئين، بل هم من فتحوا قراهم وخيمهم لعائلات عربية أصيلة، أعطوها الأمان والخبز والماء، وقاسموهم الأرض والمطر، ومنحوهم الكرامة، ليكافَؤوا اليوم بهذا النص الإنكاري الوقح الذي يعيد إنتاج خطاب البعث، بمصطلحات ناعمة ومجازات ملتوية، متذاكٍ بها على القارئ، بينما الحقيقة تعريه من أول سطر حتى ختامه الموبوء.

ومن مهازل، فلول مصانع الموت، أنه يجعل من “الخابور” موطنًا لقوافل الرحمة الفرنسية، وكأن الاستعمار هو من شيد الأخلاق والقرى! أي فكر هذا الذي يرى في “عصبة الأمم” أمًا رؤوماً، وفي الكورد أبناء ذنبٍ مزمن؟! إن هذه السردية لا تخدم سوى الأنظمة الاستبدادية المحتلة لكوردستان، وأيتامهم، ومن تربّوا في حضن الفكر الإقصائي للنظام البائد، الذي عجز، رغم مجازره وتشريد الملايين، أن يُخرس صوت الشعب الكوردي، أو يطمس هويته.

نعم، الجزيرة كانت وما زالت مسرحًا لعبور الموجات، لكن هناك فرق بين من يمرّ عابرًا، ومن ينبت في الأرض جذراً وذاكرة. ومن ينفث الكراهية في مقالاته لا يكتب من موقع الباحث، بل من ضمير الغزاة الذين يخشون الحقيقة، فيهربون إلى المجاز حين يعجزون عن تقديم دليل واحد يثبت ما يزعمونه.

يتيم البعث، لا يستحق حتى صفة كاتب، بل مجرد ببغاء بائس يكرّر ما قيل له من قبل، دون أن يمر على عقله أو ضميره أو نخوة، مقاله ليس سوى “بلاغ رقم واحد” من بلاغات الشوفينية البعثية العفنة، وقد سبقها الكثير من سفاهاته التاريخية، يهذي بتاريخ لا يفهمه إلا أيتامهم، ويزوّر وقائع لا يملك شجاعة مواجهتها، فهو حفيد البعث، يتكلم بلسان حافظ، ويفكر بعقل بثينة، ويحلم بخراب آخر لا يشبه إلا عفنه.

يتبع…

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

20/6/2025م

 

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…