ماهين شيخاني
* في البدء، الكلمة…
قرأت مقالة “الذين جاؤوا مع الريح”، وقد ظنّ كاتبها أنه يروي حكاية رمزية عن الهجرة، لكنه — دون أن يدري أو ربّما عن عمد — كان يُعيد إنتاج خطاب إقصائي بلبوسٍ سرديّ، يرسم الكُورد في الجزيرة السورية كـ”عابري سبيل”، “هاربين”، “قادمين بخيمهم”، ويقارنهم بـ”الجراد”.
ولأن الصمت في وجه التحريف ليس أدبًا، ولأن الردّ بأدب ليس ضعفًا، وجدت لزامًا أن أكتب، لا لأدافع عن وجودٍ أثبتته الجغرافيا والتاريخ والدم، بل لأصحّح ما قد ينطلي على من لم يقرأ سوى نصف الحكاية.
* الكورد ليسوا “أسرابًا طارئة”
هل من العدل وصف شعب بكامله بأنه جاء مع “الريح”، وأنه كان يعبر دجلة “زرافات” ليغزو الأرض؟
هل يُعقل هذا التوصيف في القرن الحادي والعشرين؟
الجزيرة السورية، أو ما يُسمى بـ”منطقة ما بين النهرين العليا” (Upper Mesopotamia)، لم تكن أرضًا خالية تنتظر الغزاة. لقد سكنها الكورد منذ آلاف السنين، وكانوا جزءًا من فسيفسائها قبل سايكس بيكو، قبل لوزان، وقبل الحدود ذاتها.
* من هم “الطارئون”؟
إن الحديث عن من “جاء”، يجب أن يبدأ من أرشيف الحقيقة:
الفرمان العثماني عام 1892 يذكر العشائر الكوردية في الحسكة وراس العين والخابور، وكان معظمهم من قبائل الميران والدقوري والهسنجية والكوجر، وكلهم أقدم من “الدوائر العقارية” نفسها.
وثائق الانتداب الفرنسي تثبت أن بعض الكورد استوطنوا الخابور بعد نفيهم قسرًا من كوردستان تركيا، لا حبًا بالرحيل، بل فرارًا من مذابح وانتقام بعد ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925.
سجلات عصبة الأمم عام 1933 توثّق أن فرنسا أسست عشرات القرى للكورد المهجّرين، ليس استيطانًا، بل التزامًا أخلاقيًا بقرار دولي لإنقاذ من هُدّمت بيوتهم في دياربكر وسروج.
* الجراد لا يزرع القمح!
يقول كاتب المقال: “عبروا بثيرانهم وأغنامهم وخيامهم…”
ولكن الجراد لا يفلح الأرض.
من زرع؟ من أسّس أولى مدارس عامودا؟ من أطلق أول مطبعة كوردية؟ من كتب باللغتين؟ من أطلق الحركات النقابية؟
من حمل البزق وغنّى للمطر والحنين والنهر؟
الجواب واضح: من تعرّب بعضهم قسرًا، ومن استكرد آخرون طوعًا، لأن الهوية لا تُفرض، بل تُتَوارَث وتنمو كالشجر.
* الكورد ليسوا ضيوفًا… بل جيرانكم وأبناء قريتكم
إذا كانت الحدود لعبة دول كبرى، فهل يعني هذا أن من عبر دجلة عام 1927 فقدَ شرعيته الإنسانية؟
هل من جاء خوفًا من الموت يُسمى “غريبًا”؟
أليس هذا استخفافًا بالتاريخ ودماء أجدادٍ لا يحملون جوازات سفر، بل جذورًا؟
* الجزيرة للجميع… لكن بعد الاعتراف الكامل بالكل
نعم، الجزيرة فسيفساء: عربية، سريانية، كوردية، آشورية، أرمنية، وشركسية.
لكن ليس من الأدب ولا من التعددية أن يُصوَّر الكورد كـ”موجة” جاءت مع المجاعة أو القچق، بينما يتم تجاهل أن معظم المناطق الكردية كانت تُعاقَب لغويًا، ويُمنع تسجيل مواليدها بأسمائهم الأصلية، وتُحرم من الجنسية حتى عام 2011!
* سؤال أخير لمن كتب المقال:
إن كنتَ ترى الكورد “جرادًا”…
فمن بنى المدارس، وحفر القنوات، وأحيا الخابور؟
من علّق صور جكر خوين وسيداي تيريز، لا صور القادة الطارئين؟
من يعيش الآن في عامودا والدرباسية وديريك… لا كغريب، بل كأصل؟
من الذي — رغم القمع — كتب، غنّى، وعاش دون أن يكره الآخر؟
* في الختام…
نحن الكُورد، لم نأتِ مع الريح، بل نحن جزء من تراب الجزيرة، تمامًا كما الفرات، تمامًا كما سنابل القمح.
ولا نطالب بأكثر من اعتراف متبادل واحترام متساوٍ،
فالعيش المشترك لا يقوم على الغبن،
ولا تُبنى الدولة على خرافة الجراد، بل على عدالة الإنسان.