إيران بين “السلم النووي” والتقية السياسية: قراءة تحليلية في الخطاب والموقف

عاصم محمود أمين

 

في خضم التصعيد المتواصل في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيّما في أعقاب الهجمات الإسرائيلية المتكررة ضد أهداف إيرانية، تعود طهران لتؤكد عبر خطابها الإعلامي المعلن أنها لا تسعى إلى امتلاك السلاح النووي، وأن برنامجها النووي يهدف فقط إلى الاستخدامات السلمية للطاقة. غير أن هذا الخطاب المعاد تدويره بشكل ثابت، يثير تساؤلات جد جوهرية حول مدى متانته وصدقيته وبراءته المنطقية في ظل المعطيات الجيوسياسية وسياقات الاحداث التاريخية المحيطة.
يشير عدد كبير من المحللين إلى أن الخطاب الإيراني بشأن البرنامج النووي لا يُعبّر بالضرورة عن النوايا الحقيقية للنظام، بل يُوظّف كأداة من أدوات “التقية السياسية”، وهي ممارسة خطابية تتضمن إخفاء المقاصد الفعلية خلف شعارات ناعمة أو مقبولة على المستوى الدولي. وتاريخيًا، استُخدمت هذه الأداة في مجتمعات وأطر دينية وسياسية لضمان الحماية أو كسب الوقت، لكنها في السياق الإيراني تبدو أكثر ارتباطًا بمشروع استراتيجي ذي أبعاد أمنية وجيوسياسية تتجاوز الأغراض المعلنة.
تُعد إيران دولة ذات ثقل جيوسياسي، إلا أنها تعاني من أزمات بنيوية عميقة: تأخر اقتصادي مزمن، تراجع في البنية التحتية الصناعية، وانكماش سياسي سواء داخليًا من خلال قمع الحريات وتصفية المعارضين، أو خارجيًا عبر انعدام الثقة مع محيطها الإقليمي والدولي. وتحكم البلاد منظومة ذات طبيعة دينية–أمنية ذات طابع استبدادي، ترتكز على آليات الإقصاء والتخوين، ما يجعل الخطاب الرسمي – لا سيّما في الملفات الحساسة مثل الملف النووي – موضع شك مشروع.
في ظل هذه البنية، يصبح من الصعب القبول بادعاء إيران حصر برنامجها النووي في الاستخدامات السلمية فقط. فلو لم تكن الولايات المتحدة، وإسرائيل، ودول أوروبية أخرى على قناعة بوجود نية إيرانية لتطوير قدرات نووية عسكرية، لما رأينا هذا المستوى والحشد الاعلامي من التعبئة السياسية والعسكرية والاقتصادية  لمواجهة طهران. بل إن الشكوك لا تقتصر على الدول الغربية؛ إذ تنظر العديد من الدول الإقليمية إلى المشروع النووي الإيراني بوصفه تهديدًا لوجودها وخطراً مباشرًا لتوازن القوى في الشرق الأوسط.
لا تنفرد إيران وحدها في ممارسة هذا النوع من الخطاب السياسي المبطن.

 ففي شمال شرقي سوريا (منطقة روج آفا)، تتبنّى القوى الكردية خطابًا يدعو إلى “اللامركزية”، في حين تشير المؤشرات الواقعية إلى وجود تطلعات نحو بناء نظام فدرالي مستقل — وهو مطلب مشروع قانونًا، إلا أن عدم التصريح به يُعد ممارسة لأسلوب تقية سياسية مشابه.
كما تمارس تركيا شكلاً آخر من أشكال “التقية البراغماتية”، إذ تُقدّم نفسها كفاعل خير و  إنساني وأخلاقي يدافع عن الشعب السوري، بينما تخفي خلف خطابها المعلن طموحات توسعية تسعى إلى ملء الفراغ الجيوسياسي الناتج عن تراجع الدورين الروسي والإيراني في  مناطق واسعة من سوريا والسيطرة على القرار في دمشق..
السياق والنهج ذاته نجده في خطاب الفصائل الإسلامية الراديكالية التي تحكم سوريا، بما فيها تلك المصنفة إرهابية، فتُمارس نوعًا أكثر خطورة من التقية، عبر رفع شعارات دينية تحررية عابرة للحدود السياسية، في الوقت الذي تسعى فيه لإقامة مشروع دولة دينية طائفية عابرة للحدود، وهو ما يمثّل تهديدًا وجوديًا على الأمن الإقليمي، ويجرّ شعوب المنطقة إلى صراعات مدمّرة لا تحمد عقباها.
إن تشابه هذه المواقف، رغم اختلاف مرجعياتها، يكشف عن نسق مشترك يتمثل في استخدام الخطاب كأداة تكتيكية، وليس كمؤشر حقيقي على التوجهات السياسية. فالخطاب هنا يُصاغ بمرونة وذكاء تكتيكي، لكنه في واقع الأمر يخفي وراءه نوايا استراتيجية تتعارض غالبًا مع ما يُعلن. ويمكن تفسير هذه الممارسة من منظور براغماتي باعتبارها أداة للبقاء والاستمرار في بيئة مضطربة لا ترحم الضعفاء ولا تكافئ الشفافية.
إن المشروع النووي الإيراني، شأنه شأن مشاريع التغيير الجيوسياسي المناظرة لها في المنطقة، ليس من العقلانية والامانة الفكرية ان نفصله عن السياقات الأوسع للصراع المحلي و الإقليمي والدولي، ولا عن البنية الداخلية الهشة للأنظمة السياسية التي تتبناه.

ففي ظل غياب الشفافية، واستحالة الخطاب إلى وسيلة للتقية و للمراوغة والتضليل، تصبح مهمة المجتمع الدولي في التمييز بين الطموحات المشروعة والمشاريع ذات الطابع التهديدي معقّدة للغاية.
لذا فإن مقاربة الخطاب الإيراني، كما الخطابات المشابهة في مناطق الأزمات، يجب أن تستند إلى تحليل ذو وجهين يجمع بين دراسة عقلانية للخطاب من جهة، ورصد السلوك السياسي الواقعي من جهة أخرى. وبناء على ذلك يمكن الوصول إلى فهم أعمق وأدق للطبيعة الثنائية للنوايا المصرحة العلنية و الفعلية، وتقدير حجم التهديدات أو الفرص التي تنطوي عليها.

 

شارك المقال :

5 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…