بعد إيران، تركيا*

برنار هنري ليفي

النقل عن الفرنسية: إبراهيم محمود

 

إنها لقضية سياسية رئيسة في نهاية هذا العام العصيب ٢٠٢٤: مصير الشعب الكُردي، المهدّد من قِبل تركيا أردوغان.

كُرْد سوريون يتظاهرون في مدينة قامشلو شمال شرق البلاد، في ٢٨ كانون الأول ٢٠١٨، ضدّ التهديدات التركية بهجوم جديد عبر الحدود في أعقاب قرار الولايات المتحدة سحب قواتها. الصورة: وكالة فرانس برس.

 

بعد أن ضعفت إيران، علينا أن نقلق بشأن تركيا.

أعني، أنها ضعفتْ. حيث سيتطلب الأمر أكثر من مجرد تدمير حماس، ثم نزع سلاح حزب الله، ثم سقوط ديكتاتورية الأسد الفظيعة في سوريا، لإنهاء التهديد الذي يشكله الحرس الثوري الإيراني على العالم.

لكن الأمور تسير أخيرًا على الطريق الصحيح.

 

الهلال الشيعي الشهير Le fameux croissant chiite، الذي امتد من طهران إلى بغداد ودمشق ثم بيروت، وسيطر على شعوب المنطقة، أصبح، بفضل إسرائيل، في حالة يرثى لها. وفي ظل الحرب العالمية التي يشنها علينا من أسميتهم “الملوك الخمسة”، وفي اللعبة الكبرى الجديدة حيث يبدو أن الخمسة يتناوبون على مضايقة الغرب وإخضاع من هم خارجه ممن يتماهون مع قيمه، في نهاية عام ٢٠٢٤، عندما تحاول إيران توحيد صفوفها، وعندما ترغب روسيا في إنهاء حربها المدمرة ضد أوكرانيا، وعندما تنتظر الدول الإسلامية السنية بحذر وصول ترامب، وعندما تكافح الصين مع الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي تهز نموذج الرأسمالية الجديدة الذي اعتقدت أنه مضمون، حان دور تركيا لتولي زمام المبادرة. هذا صحيح في البلقان، وخاصةً في البوسنة الحبيبة، حيث لا يُفوّت أردوغان أي فرصة لملء الفراغ الذي خلّفه استسلام أورُبا المأساوي منذ حصار سراييفو قبل ثلاثين عامًا. وهذا صحيح في أرمينيا، حيث بعد عام من الهجوم على ناغورنو كاراباخ وما تلاه من نزوح سكاني، لم يتخلَّ عن قوميته التركية، ولا يزال يطمح إلى منطقة سيونيك في الجنوب.

ويصدق هذا أيضًا بين الإيرانيين، حيث لا يُستبعد التحالف الطعن في الظهر، وحيث يُمثّل، سرًا، من خلال حلفائه في أذربيجان، الداعم الأكثر نشاطًا للنزعات الانفصالية لأقلية أذربيجانية تُشكّل 11% من سكان البلاد.

يتضح هذا جليًا عندما يُنصت المرء إلى الخطاب المُرعب الذي ألقاه للتو في سكاريا أمام مسئولي حزبه، والذي يُعرب فيه عن رغبته في التخلي عن المعاهدات التي أسّست، بإنهاء الحرب العالمية الأولى، لتفكيك الإمبراطورية العثمانية. وهذا واضحٌ في سوريا منذ ظهور هذه الشخصية الغريبة، التي لم يعد من المناسب تسميتها بالجولاني، وهو لقبه الحربي خلال فترة وجوده في تنظيم القاعدة، والتي لم تتمكن من تنفيذ “ثورتها” إلا بدعم سياسي ومالي وعسكري من الدولة التركية.

فهل سنسمح بحدوث هذا؟

هل سنقبل أن يحل الإخوان المسلمون محلّ نفوذ التطرف الشيعي المتراجع؟

وهل سيدفع الكُرْد، الذين هم، إلى جانب إسرائيل، أفضل حلفائنا في المنطقة، هؤلاء المقاتلون الذين بذلوا الكثير قبل عشر سنوات لطرد داعش من العراق وسوريا، ثم خُنناهم، ثمن هذا النظام الإقليمي الناشئ؟ هذه هي نية عناصر “الجيش الوطني السوري” الذين طردوهم، ابتداءً من 8 كانون الأول، بدعم من سلاح الجو التركي، من تل رفعت ثم منبج. هذا ما ينوي أردوغان نفسه، إذ يُعيد، للمرة الألف، صياغة نظريته المناخية القديمة والعبثية والعنصرية حول تقارب الشعب العربي، دون الشعب الكردي، مع المناطق الصحراوية في شمال شرق سوريا، مُبررًا سلفًا عمليات هجرة قسرية تُعتبر تطهيرًا عرقيًا.

هذا هو معنى ما قاله وزير دفاعه، يشار غولر، في 15 كانون الأول، مُعلنًا أنه “من غير الوارد” السماح لوحدات حماية الشعب الكردية القتالية بالبقاء على الحدود التركية، وأنه لم يعد أمامها خيار سوى “الحل” أو “الإبادة”. هذا، وفقًا للوزير نفسه، في البيان نفسه، هو “إرادة” “الإدارة السورية الجديدة” المُعلنة بوضوح، والتي، كوكيلها المُطلق، لا تنوي أيضًا السماح لقوات الجنرال مظلوم عبدي كوباني “بالتصرف بمفردها” وفي “مساحة من الحكم الذاتي”. وهذا هو الرعب الذي ينتاب هذا الشعب العظيم، عديم الجنسية، الشجاع ولكن الضعيف، الشعب الكردي، الذي يتقاسم، من القامشلي إلى أربيل، مع اليهود والأرمن وعدد قليل من الآخرين، المعرفة الدقيقة بما تعنيه الإبادة الجماعية وما ينذر بها.

الديمقراطيات ليست عاجزة عن مواجهة العار الذي يلوح في الأفق.

الاقتصاد التركي متداع ٍ fragile  ولن يصمد أمام العقوبات.

الولايات المتحدة، رغم انسحابها عام ٢٠١٩، لا تزال تحتفظ ببضع مئات من جنودها على الأرض.

والأهم من ذلك، أن أورُبا تتمتع بنفوذ كبير بفضل وجود تركيا في حلف الناتو.

هل سنستخدمه؟

هل سنلوّح، حتى لو كان تنفيذه معقدًا، بالتهديد بالطرد من تحالف يفترض حدًا أدنى من القيم المشتركة؟

وهل نجرؤ على أن نقول لأنقرة: “ارفعوا أيديكم عن أصدقائنا الكُرْد… خط أحمر مطلق… أعاد الغرب بناء نفسه، قبل ٧٥ عامًا، على مبدأ ” لن تتكرر الإبادة الجماعية أبدًا  plus jamais ça du génocide…”؟

هذا، إلى جانب الحرب في أوكرانيا، هو السؤال السياسي الرئيس لهذه النهاية المروعة لعام ٢٠٢٤.

 

Bernard-Henri Lévy: Après l’Iran, la Turquie, 28 décembre 2024

عن كاتب المقال :

أكاديمي وإعلامي وسياسي يهودي فرنسي؛ يوصف بأنه صديق لكبار الأثرياء والساسة الفرنسيين بمن فيهم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي. عُرف بانحيازه لإسرائيل، وكان له اهتمام كبير بثورات الربيع العربي. ألف كتباً رائجة.

 

المولد والنشأة

ولد برنار هنري أندريه ليفي يوم 5 تشرين الثاني 1948 في مدينة بني صاف شمالي الجزائر أيام خضوعها للاحتلال الفرنسي، لعائلة يهودية جزائرية ثرية كان أبوها تاجر أخشاب. وقد انتقلت أسرته من الجزائر إلى فرنسا بعد أشهر من ميلاده.

يوصف ليفي -الذي يعتبر “نجم تيار الفلاسفة الجدد” الذي برز في فرنسا خلال سبعينيات القرن العشرين- بأنه “يساري” من الناحية الفكرية والفلسفية ولكنه “يميني صهيوني” على صعيد المواقف والممارسة السياسية.

وقد عُرف بتعصبه القوي لإسرائيل عندما يتعلق الأمر بمصالحها وأمنها، فقد رفض وصف حروبها على غزة بالإبادة، وصرح عام 2010 -إثر العدوان الإسرائيلي المدمر على غزة- بأن “الجيش الإسرائيلي أكثر الجيوش أخلاقية وديمقراطية”، وهو القائل إن الجولان “أرض مقدسة” كما أنه يوظف ثقافته الفلسفية والأدبية لصالح “المحرقة اليهودية”. بل إنه كان مرشحا لرئاسة إسرائيل.

مارس ليفي التدريس في الجامعات والمعاهد الفرنسية، فقد درّس نظرية المعرفة في جامعة ستراسبورغ والفلسفة بمدرسة المعلمين العليا. وأسس مجلة “قاعدة اللعبة”، كما أنشأ مع يهود آخرين في نهاية التسعينيات “معهد لفيناس” الفلسفي بمدينة القدس المحتلة.

وعندما اندلعت الثورة السورية في مارس/آذار 2011، كتب ليفي مقالا-وقعه معه ثلاثة من مشاهير السياسة الفرنسية بينهم وزير الخارجية الأسبق برنار كوشنير- نشرته صحيفة لوموند يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول 2012، ودعوا فيه الدول الغربية للتدخل لقتال “استبداد آل الأسد” و”التطرف الإسلامي” وذلك بهدف “وقف أنهار الدم” في سوريا خدمة “للمستقبل الديمقراطي”.

يُعتبر برنار هنري ليفي من أهم الكُتَّاب والمفكرين في أوروبا وله أكثر من 38 مؤلفا في الفلسفة وروايات الخيال والتراجم، بعضها مقالات سبق أن نشرها في الصحافة. وهو منتج وممول أفلام قيل إنها مُنِيت بفشل ذريع.

ومن كتبه: “بنغلاديش والقومية في الثورة” (صدر عام 1973)، و”البربرية بوجه إنساني” الذي ترجم إلى لغات عدة، و”الإيديولوجية الفرنسية” (1981)، و”من قتل دانييل بيرل؟” (2003) تحدث فيه عن جهوده لتعقب قتلة الصحفي الأميركي دانييل بيرل الذي قتله تنظيم القاعدة، و”يسار في أزمنة مظلمة: موقف ضد البربرية الجديدة” (2008) تكلم فيه عن “سقوط قـِيم اليسار”.

وهو الصديق المقرَّب من الكرد، وفيلمه الشهير ” البيشمركة “، وكما هو اسمه، والذي أخرجه سنة 2016 في ” 92 دقيقة ” عن مقاومة البيشمركة لإرهاربيي ” داعش ” علامة فارقة في هذه الصداقة المعتبَرة، والمقال الذي ترجمتُه عن الفرنسية مثال حي حول ما تقدم.

المترجم: نقلاً عن مواقع انترنتية “

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…