إبراهيم اليوسف
الوطن في أرومته قبل الخريطة في حبرها
أحدهم
لم يبدأ مشروع “الشرق الأوسط الكبير” من مقاعد البيت الأبيض، بل تسرّب ببطء من: غرف التفكير، مراكز البحوث، خرائط الجيوبوليتيك، وأقلام من ظنّوا أن المنطقة لا تستحق حدودًا ثابتة، وفق تصورات القطب الثاني الموازي بل المعادي للاتحاد السوفياتي السابق، كقطب قوي عملاق، قبل انهياره التاريخي. إذ إن هنري كيسنجر- 1923-2023 – مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية في السبعينات، كان أول من مهد لفكرة إعادة ترتيب الشرق على أساس مصلحة أمنية أميركية تتقدّم على كل تعقيد داخلي، حيث بدأ الحديث عن شرق أوسط جديد في أعقاب حرب أكتوبر 1973، تحت شعار الاستقرار مقابل التوقيع. ثم جاء بعده ألكسندر هيغ – 1924-2010 – وزير الخارجية في إدارة ريغان، ليُدرج الفكرة ضمن خطاب علني، حيث تحدّث عن ضرورة “ضبط” الشرق الأوسط كخط دفاع أمامي في وجه الاتحاد السوفييتي. لم يكن هدفه الاعتراف بالتنوع، بل إخضاعه لاستقرار وظيفي يخدم المعسكر الغربي.
وقد قدم برنارد لويس- 1916-2018 – المؤرخ البريطاني الأميركي المقرب من المحافظين الجدد، في ثمانينيات القرن الماضي، تصورًا أكثر حدّة: الشرق الأوسط سيظل مأزومًا ما لم يُفكَّك على أساس ديني وعرقي. وهو الذي وضع الأسس النظرية لفكرة تفكيك الدول إلى مكوّنات إثنية تحت مسمى “الفرصة التاريخية لإعادة التكوين”.
وتولت، لاحقًا، مراكز بحث أميركية ذات سطوة ونفوذ صياغة خطوط المشروع الأيديولوجية، لتعمل على ترسيخ تصور استراتيجي لا يرى في الشرق الأوسط سوى مساحة ينبغي إعادة هندستها بما يخدم ثنائية الأمن والسيطرة. لم يكن أصحاب هذه الرؤى مجرّد كتّاب، بل معماريي سياسات ممن رسموا ملامح التدخل الناعم والمركّب في الجغرافيا العربية. برز من بينهم أسماء مؤثرة في القرار الأميركي كـ زلمي خليل زاد – 1951…….. -، ومايكل روبين – 1971 -………، وإليوت أبرامز – 1948 -………، وريتشارد بيرل – 1941 -……….، الذين صاغوا وثائق تُعَدّ من أخطر ما أنتجته تلك المراكز، ومن أبرزها وثيقة “القطع النظيف” التي صيغت عام 1996 لمصلحة بنيامين نتنياهو – 1949 -، وتضمنت خطة تفكيكية تمتد من سوريا إلى العراق ولبنان، هدفها النهائي إعادة ترتيب الخريطة بما يعزز هيمنة إسرائيل ويقزّم أدوار ونفوذ سلطات المنطقة المتداعية، وفق تصوراتها.
كما ظهر، في العام 2003، وفي هذا المناخ، جورج بوش الابن – 1946 -……..- كي يعلن رسميًا المشروع تحت لافتة “نشر الديمقراطية” بعد احتلال بغداد. ليتولّى، بعد هذا المنعطف، كل من كولن باول – 1937-2021 – وزير الخارجية، وكوندوليزا رايس – 1954 – مستشارة الأمن القومي، تقديم “مبادرة الشرق الأوسط الكبير” فيما سميت” قمة الثماني” عام 2004، بوصفها مشروعًا تحويليًا للمنطقة، يبدأ بإصلاح التعليم والإعلام، ويصل إلى إعادة تشكيل أنماط الحكم.
ونتذكر جميعاً أن المفارقة الأخيرة جاءت بعد عودة نتنياهو إلى الحكم – ليغدو آخر من استعاد المفهوم صراحة عام 2020 – إذ تحدث بعد توقيع اتفاقيات “أبراهام” عن شرق أوسط جديد “بلا حروب” ولا مقاومات، بل باتفاقات علنية تُدمج فيها إسرائيل كقوة في قلب الجغرافيا السياسية.
لكل هذا وذاك، فإن من يظن أن المشروع مجرد مؤامرة عابرة، يُهمل الحقيقة الكبرى: أن الداخل المهتزّ هو ما يمنح المشروع الخارجي شرعيته الضمنية. إذ حين يُمنع الكردي – مثلًا كأحد أبناء الشعوب المتضررة من التقسيم السايكس- بيكوي – من تسمية ابنه بلغته، وأن يُمنع الأمازيغي من تعليم لغته، فإن المشروع لا يبدو حينها عدوانًا، بل مرآة لمأساة قائمة. إذ لم يكن الكرد ولا سواهم من المكونات الأصلية أعداء للمكان، بل أعداء لقمعه. لذا، فإن تحميلهم مسؤولية ترداد المشروع، أو إشراكهم فيه قسرًا، إنما هو قلب للوقائع. حيث إن الكرد الذين قاوموا سياسات القمع والمنع في تركيا، وسياسات إنكار الوجود في سوريا، وسياسات التهميش في إيران، لم يطالبوا إلا بحق يليق بمواطن لا يُجَرَّم بسبب انتمائه.
واعتماداً على مثل هذه الوقائع العنوناتية الضئيلة – وهي غيض من فيض- فإن فشل المشروع كما طرحته واشنطن لا يعني انتصارًا أخلاقيًا للأنظمة، بل يعكس قصورًا في ترجمة الطموحات على الأرض. إذ إن مقاومة المشروع الخارجي لم تقترن غالبًا بإصلاح داخلي، بل باتت ذريعة لقمع أكبر، ووصم أوسع. وهكذا، حين يصبح كل صوت مغاير متهمًا، وكل هوية مستقلة خطرًا، فإن المشروع الخارجي لا يحتاج كثير جهد لينتصر، إذ يجد في فشل الداخل وسيلة متاحة للتسويق.
الداخل، الداخل: أولًا وأخيرًا
أجراس الوطنية الحقة
من هنا نرى أن الطريق الأجدى لا يكون برفض المشروع كشعار، بل ببناء بديله، استباقيًا، ولو جاء متأخرًا، من داخل الأسوار، لقطع الطريق أمام أي تدخل خارجي. لا أحد يستطيع منع مشروع ما من الحضور، لكن الجميع يستطيع إفشاله إن أُنجزت العدالة محليًا. لا قيمة لوحدةٍ تُبنى على السحق، ولا معنى لسيادةٍ تُمارس بالخوف. لأنه حين تتساوى القوميات، وتُعطى اللغات فرصها، ويُعاد الاعتبار للأزياء، وللأغاني، وللحق في السرد، سيجد أي مشروع خارجي نفسه بلا حاجة، وبلا جمهور. وهو ما أرى أن الفيدرالية أفضل تجسيد له، كمطلب ملح وعلاجي وإسعافي.
معاداة المشروع يجب ألا تسوغ معاداة شعوبه. كما أن التنديد بالمصالح يجب ألا يُستخدم كغطاء لقمع من يطالب بلقمة، أو مقعد مدرسي بلغته، أو قصيدة لا تمرّ على الرقيب.
تأسيسًا على ذلك، تبدو الحالة السورية مثالًا فجًّا على انتفاء شروط الشراكة حتى بعد سقوط نظام الأسد من بعض المناطق. إذ إن الذين اعتبروا أنفسهم البديل، لم يُدرجوا الكردي في معادلة الدولة الجديدة: لا في الدستور، لا في الحكومة، لا في الوزارات، لا في مشروع البرلمان الممسوخ، لا في التمثيل السياسي الفعلي. إذ بقي الكردي- حتى بعد زوال الدكتاتور من بعض الخرائط – خارج مشروع الدولة المنشودة، كما ينبغي أن يكون: واقعًا وثقافة وضرورة لا يمكن تجاهلها البتة.
رغم أنه- وبأسف- قد ازدادت المفارقة حدة، حين أقام بعضهم علاقات خفيّة أو معلنة مع إسرائيل، ويتم التنازل لها عن أراضٍ، ثم طالب الكردي بمعاداتها، وكأن الوطنية تُقاس على مزاج المركز الجديد. فمدّعو الوطنية أنفسهم من هرولوا إلى المناصب، وتحايلوا على المبادئ، وتغافلوا عن الشراكة، بينما طُلب من الكردي أن يصفّق لظلال هؤلاء دون أن يُرى، أو يُحسب له حساب!
ولهذا فإننا نرى أن المعادلة مختلّة أصلًا: فمن لم يملك الجرأة على إنصاف الكردي في لحظة بناء البديل، لا يملك الحق الأخلاقي في مساءلته عن مواقفه من الخريطة الجديدة- ولو في إطار التصور لا الواقع. إذ إن العلاقة مع إسرائيل، حين تكون انتقائية في التسويغ، تُظهر عمق الزيف لا صدق الانتماء. وهو ما يجعل المعركة الحقيقية لا تدور فقط بين المشروع الخارجي والدولة، بل بين مشروع قيد التشكّل، وطيف شعوب حُرمت من العدالة حتى في أحلك اللحظات.
أجل. إن الداخل الذي يريد مقاومة الخارج، لا بد أن يكون قد أصلح عيوبه، وفتح نوافذه، وطمأن أبناءه. وإلا، فإن مشروع الخارج- مهما كان هجينًا وسلبيًا وفق تصورات ما- سيظل يجد في الداخل غير معالج الخلل، بل القضايا، ما يدفعه إلى حلول علاجية غير مرضية بالنسبة إلى الآخر.
المصادر والمراجع:
1- معلومات وتواريخ من الشبكة العنكبوتية وأصداء مقالات مقروءة في أوقات متعددة عبر عقود وإعادة توظيف مصطلحات مثل: “الفرصة التاريخية لإعادة التكوين” أو “نشر الديمقراطية” أو “مشروع تحويلي للمنطقة” وهي وسواها- بشكل عام- تعبيرات ظهرت في الوثائق الأصلية للمشروع أو في بعض الأوراق البحثية الرسمية التي وصلتنا عبر الترجمات.
2-رؤية خاصة فيما يشبه النداءَ