صراع الوجود وأسئلة المصير: الهجوم الإسرائيلي على إيران بين الحسابات الاستراتيجية والمآلات الوجودية

 بوتان زيباري

 

في فجر يومٍ لم يُعلن عن مقدمه، انطلقت أسنة الصواريخ الإسرائيلية تخترق سماء إيران، كالسهم الذي يُريد أن يصل إلى القلب النابض للمشروع النووي الإيراني. لم يكن “الأسد الصاعد” – كما أسمته تل أبيب – مجرد غارة عسكرية عابرة، بل كان محاولةً لقلب موازين القوة في الشرق الأوسط، وإعادة رسم معادلة الردع بين قوتين تتصارعان على جمرة الوجود. لكن هل نجحت الضربة في تحقيق غايتها، أم أنها فتحت أبوابًا من التحديات التي لم تُحسب بدقة؟

لقد ترك الهجوم أصداءً عميقة في المشهد الجيوسياسي، إذ لم يُختبر فقط مدى مناعة المنشآت النووية الإيرانية، بل اختُبرت هيبة النظام نفسه. فاختراق الدفاعات الجوية، واستهداف القيادات العسكرية، رسالةٌ لا تخلو من دلالة: إنها محاولة لنزع رداء القداسة عن الحرس الثوري، وإثبات أن “العقيدة الأمنية” الإيرانية ليست منيعة. ومع ذلك، فإن السؤال الأكثر إلحاحًا يبقى: إلى أي مدى أثرت الضربة على البرنامج النووي؟ تشير التقارير إلى أن المنشآت الرئيسية – مثل فوردو وأصفهان – صمدت كالقلاع المحصنة، بينما اقتصر الضرر على موقع نطنز، حيث تصاعد الدخان كشاهدٍ على ضربةٍ قد لا تكون قاضية.

في هذا السياق، تبرز مفارقة لافتة: فبينما تسعى إسرائيل إلى شلّ القدرة النووية الإيرانية، قد تدفعها الضربات إلى تعزيز إصرارها على امتلاك السلاح النووي كضمان للبقاء. فهل نكون أمام حلقة مفرغة من التصعيد؟ التاريخ يقدم لنا سوابقَ مُقلقة؛ فكوريا الشمالية، التي حوّلت برنامجها النووي إلى درعٍ وجودي، تُشكل نموذجًا يُقلّده بعض القادة الإيرانيين في مخيلتهم الاستراتيجية. وإذا كانت إيران تمتلك بالفعل البنية التقنية والمعرفية لإعادة الإعمار – بعكس تجارب العراق وسوريا – فإن أي ضربة قد تتحول إلى حافزٍ للتسريع نحو “النووي”، لا التراجع عنه.

لكن المعادلة لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تمتد إلى الساحة السياسية الداخلية في كلا البلدين. ففي إيران، ثمة تساؤلٌ عما إذا كان الهجوم سيشعل انتفاضة شعبية، أم سيعزز التماسك الوطني حول النظام في لحظة يُنظر إليها كتهديد خارجي. التجارب التاريخية تُظهر أن الشعوب تميل إلى التوحد في أوقات الأزمات، خاصةً عندما يُصوّر العدوان على أنه استهدافٌ للكيان الوطني برمته. أما في إسرائيل، فإن الهجوم يأتي في سياقٍ من الاستقطاب السياسي الحاد، حيث تُطرح أسئلةٌ حول دوافعه: هل هي حماية الأمن القومي، أم محاولة لإنقاذ شرعية حكومة تتخبط في الأزمات؟ وكما يرى بعض المحللين، فإن مغامرةً بهذا الحجم – قد تُشعل حربًا إقليمية – تتطلب إجماعًا داخليًا وثقةً شعبيةً واسعة، وهما عنصران غائبان اليوم.

أما على الصعيد الدبلوماسي، فإن الهجوم قد أغلق – ولو مؤقتًا – نافذةً كان يُمكن أن تُفتح أمام الحوار. فمحادثات فيينا النووية، التي كان مقررًا أن تستأنف في منتصف يونيو، تبدو الآن كسفينة غارقة في بحر من الشكوك. وإذا كانت إسرائيل قد استندت إلى قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية – الذي اتهم إيران بعدم الالتزام بمعاهدة حظر الانتشار النووي – كتبريرٍ دبلوماسي لضربتها، فإن طهران قد تُعيد تفسير هذا القرار كذريعةٍ للانسحاب من المعاهدة تمامًا، متخذةً من الهجوم مبررًا لمسارٍ نوويٍ أكثر جرأة.

في الختام، يبقى المشهدُ مُعلّقًا بين احتمالاتٍ ثلاثة: إما أن تُسرع إيران نحو امتلاك السلاح النووي كخيارٍ وجودي، أو أن تختار طريقًا دبلوماسيًا مُعقدًا يُعيدها إلى طاولة المفاوضات، أو أن تردّ بعنفٍ يُفاقم دوامة العنف الإقليمي. وفي كل الأحوال، فإن الهجوم الإسرائيلي لم يُحسم الصراع، بل أضاف إليه طبقاتٍ جديدة من التعقيد، كاشفًا عن حقيقةٍ جيوسياسيةٍ قديمة: في الشرق الأوسط، حيث تُختبر إرادات القوى، تكون النتائج دائمًا أبعد مما يُتوقع.

السويد

18.06.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…