الجزيرة والسردية الإيرانية: قراءة في مقال كريس هيدجيز

عدنان بدرالدين

 

مع تصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران، واحتمال انخراط الولايات المتحدة عسكريًا في ضرب منشآت إيران النووية – رغم وعود ترامب الانتخابية بتجنّب الحروب – تبدو المنطقة على حافة انفجار واسع قد يغيّر وجه الشرق الأوسط. في هذا السياق الحرج، تنشر قناة الجزيرة مقالًا للصحفي الأمريكي كريس هيدجيز يتبنى سردية النظام الإيراني بالكامل، متجاهلًا أزماته الداخلية، وانكشافه الأمني، وتورطه العميق في زعزعة استقرار عدة دول في المنطقة.

هذا المقال يحاول تفكيك سردية هيدجيز، لا فقط من باب التحقق الصحفي، بل لأنه يمثّل نموذجًا صارخًا لاستخدام المنصات الإعلامية الكبرى في تلميع صورة أنظمة استبدادية، في لحظة قد تكون الأخيرة لها على الخارطة السياسية الإقليمية.

يصف كريس هيدجيز نفسه بأنه اشتراكي، وأحيانًا فوضوي (أناركي)، ويرى في الصراع الطبقي جوهر التاريخ البشري، مستندًا إلى تحليل ماركسي يعتبره صائبًا. لكن هذا الميل الأيديولوجي يتحول في بعض كتاباته إلى خطاب تعبوي، كما في مقاله الأخير على موقع الجزيرة.نت، الذي جاء بعنوان صدامي: «أوراق إيران الرابحة وحماقة إسرائيل و وأمريكا».

بعيدًا عن التحليل الرصين، بدت المقالة في نبرتها أقرب إلى خطاب الحرس الثوري الإيراني منها إلى تحليل صحفي مستقل يفترض أن ينطلق من معايير مهنية. إذ قلب هيدجيز المشهد رأسًا على عقب، مصورًا إيران، التي تلقت مؤخرًا ضربات عسكرية دقيقة، على أنها قوة لا تُقهَر، فيما ظهرت إسرائيل، رغم تفوقها العملياتي والتقني، كمنهكة أمام “عاصفة إيرانية” لا يسندها أي واقع ملموس.

والمفارقة أن المقال، رغم طوله، أغفل محاور أساسية لا يمكن القفز فوقها: كبرنامج إيران النووي، وتورطها في دعم جماعات مسلحة عابرة للحدود، وانتهاكاتها الواسعة ضد الشعوب الكردية والبلوشية والعربية، فضلًا عن ملف حقوق النساء. كذلك تجاهل التصدعات الداخلية المتفاقمة، والأزمة الاقتصادية، والتظاهرات الشعبية المتكررة التي هزت النظام أكثر من مرة.

بدلًا من ذلك، تبنّى هيدجيز سردية «المظلومية الجيوسياسية»، مقدّمًا إيران كضحية لعدوان خارجي تسعى فقط إلى الدفاع عن سيادتها. وهي رواية تتكرر في الإعلام الرسمي لطهران، لكن أن يتبناها كاتب غربي وبمنبر عربي واسع الانتشار، فذلك ما يثير تساؤلات عن نوايا المنصة بقدر ما يثير الدهشة من مضمون المقال نفسه.

قدّم هيدجيز إيران كـ«دولة متماسكة ومستقرة»، متغافلًا عن الضربات الدقيقة التي تلقاها الحرس الثوري، والانكشاف الأمني المتكرر الذي أصاب بنيته الاستخبارية. كما تجاهل حقيقة أن الدعم الروسي- الصيني لطهران لا يتعدى، في أفضل الأحوال، إطار المصالح المؤقتة وبعض جوانب التعاون التكنولوجي المحدود.

أما هجومه على واشنطن، فجاء متجاوزًا حتى خطاب بعض صقور النظام الإيراني، مُتَّهمًا الولايات المتحدة باختلاق عدو جديد لتغطية إخفاقاتها السابقة. هذا الاتهام يتجاهل أن واشنطن، منذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015، ظلت تسعى لتفادي أي مواجهة مباشرة مع طهران، كما تؤكد قراءتها الحذرة للمشهد اليوم، والتي تنطلق عموما من الحرص لا من نزعة تصعيدية – وما نسوقه هنا هو توصيف للوقائع، لا تبرير لسياساتها.

إقليميًا، تجاهل المقال تمامًا الدور المحوري الذي تلعبه إيران في تسليح الحوثيين، وتمويل الميليشيات في العراق، وتعزيز نفوذ حزب الله في سوريا ولبنان- وهي جميعها أدوات تشكّل العمق الاستراتيجي لطهران في مواجهة خصومها. وعندما فشلت هذه الأدوات في ردع الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، لجأت إيران إلى رد عسكري مباشر وصفه هيدجيز بأنه “مؤلم”، لكنه في الواقع لم يُحدث أي أثر نوعي، إذ تصدت له الدفاعات الإسرائيلية بكفاءة.

اللافت أيضًا هو توقيت النشر، وتبنّي الجزيرة لهذا النوع من الخطاب، في ظل سياسة تحريرية تتسم – منذ فترة – بانفتاح محسوب على محور إيران- تركيا، في محاولة قطرية لتحقيق توازن مع تحالفها الأمني مع واشنطن. ضمن هذه المناورات، تحظى السرديات المجمّلة لطهران بمساحة واسعة، بينما تغيب الأصوات الإصلاحية والليبرالية لشعوب إيران، وكأنها غير موجودة.

في المحصلة، لا تكمن خطورة مقال هيدجيز في انحيازه فحسب، بل في استعداده لتبني سردية لا تستند إلى واقع، وتقديمها كتحليل موضوعي. وعندما يصبح الإعلام منصة لتسويق الرغبات بدل الوقائع، فإن الخاسر حينها لا يكون الحقيقة فقط، بل أيضًا صدقية الإعلام نفسه. فالدعاية قد تنجح في تسويق عناوين لافتة، لكنها تظل عاجزة عن تغيير ميزان القوى على الأرض.

لكنّ مقال هيدجيز لا يُمثّل، ببالغ الأسف، حالة معزولة، بل يعكس ظاهرة أوسع تتكرّر في تغطيات إعلامية تتبنى سرديات قوى سلطوية، تُستَخدم فيها بعض الأسماء الغربية اللامعة، ممن يُقدَّمون كخبراء مستقلين، في تلميع صورة أنظمة استبدادية فشلت حتى في كسب رضى شعوبها. وهكذا يتحوّل الخطاب التحليلي إلى أداة تبييض سياسي، تمنح تلك الأنظمة غطاء من الشرعية الرمزية تحت لافتة «وجهة النظر الغربية»، بينما لا يختلف مضمونها في الواقع كثيرًا عن البيانات الرسمية الصادرة عن مؤسسات الأنظمة المعنية.

…لكن التطورات المتسارعة في الأيام الأخيرة تفرض قراءة جديدة ومكملة للمشهد. إذ تشير تقارير استخباراتية وإعلامية متقاطعة إلى أن الولايات المتحدة، بقيادة ترامب العائد إلى البيت الأبيض ببرنامج انتخابي يدّعي النأي عن الحروب الخارجية، قد تكون على وشك الانخراط عسكريًا في استهداف منشآت إيران النووية المحصّنة، تحديدًا في “فوردو”. هذا المسار، إن تحقق، يكشف عن مفارقة بالغة: فالرئيس الذي وصل إلى السلطة على ظهر وعود العزلة والانكفاء، يجد نفسه اليوم أمام مغامرة عسكرية غير مضمونة العواقب، تهدد بإشعال سلسلة من التفككات داخل إيران، قد تتحول معها البلاد إلى مشهد سوري أو ليبي على نطاق أوسع وأخطر.

ورغم أن ترامب يروّج للهجوم باعتباره ضربة “نهائية” لتفكيك البرنامج النووي الإيراني، إلا أن التداعيات الإقليمية المحتملة، خاصة في حال سقوط النظام أو انزلاق البلاد نحو الفوضى، تنذر بعواقب يصعب احتواؤها، وتتناقض كليًا مع مزاعم الإدارة بعدم الرغبة في تكرار أخطاء العراق وأفغانستان. أما على الأرض، فإن انخراط قوى أمريكية كبرى – من حاملات طائرات إلى قاذفات ثقيلة – يعني أن المسألة لم تعد رمزية، بل أقرب إلى ما يُشبه إعادة رسم موازين القوى في الشرق الأوسط بالقوة، ستطلق على الأرجح فوضى إقليمية يصعب التكهن بمآلاتها.

من هنا، فإن مقال هيدجيز يبدو أكثر عُزلة عن الواقع من أي وقت مضى، لا فقط لأنه يتبنى سردية النظام الإيراني، بل لأنه يتغاضى بالكامل عن طبيعة التناقضات الداخلية للنظام نفسه، وعجزه البنيوي عن الصمود أمام ضربات نوعية، فضلًا عن تسارع التحولات الإقليمية والدولية التي قد تطيح بـ”أوراق إيران الرابحة” خلال أسابيع، وليس سنوات.

ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه التحركات الأمريكية، سواء كانت تمهيدًا لهجوم فعلي أو وسيلة ضغط تفاوضي، تُعطي بعض الوجاهة لحجج هيدجيز حول استمرار النزعة التوسعية في السياسات الأمريكية. لكن الفارق الجوهري أن إيران ليست كيانًا مسالمًا يواجه غزوًا خارجيًا، بل نظام توسعي بدوره، يُمارس عدوانه من داخل حدود الآخرين، لا من أجل السيادة، بل لإعادة هندسة الإقليم على أسس مذهبية وأمنية تخدم سلطته. وهنا يكمن جوهر الفرق بين نقد مشروع ونقد يُحوّل الطغاة إلى ضحايا.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…