سقوط الأقنعة: حين يصبح الفساد سلاحاً للانهيار والهيمنة

بوتان زيباري

 

في زمنٍ تتحول فيه الجغرافيا إلى ساحة حربٍ بالوكالة، وتتحول الدول إلى مسارح لمآسٍ تبدأ بالسياسة وتنتهي بالشعوب، تبرز إيران كدرعٍ مثقوب، وتركيا كقلبٍ ينزف بين المطرقة والسندان. “عملية الأسد الصاعد” لم تكن مجرد هجوم عسكري، بل كانت كشفاً مدوياً لهشاشة الأنظمة التي تظن أن القبضة الحديدية يمكن أن تحميها من رياح التغيير. ثمانية أشهر من التسلل الاستخباري كشفت أن أعتى الحصون تنهار من الداخل، حين تتحول المؤسسات إلى أسواقٍ للولاءات والبيانات، وحين يصبح الفساد لغةً مشتركة بين الحاكم والمحكوم. ثلاثمائة هدف تدمرت في طرفة عين، ليس لأن الصواريخ الإسرائيلية كانت أقوى، بل لأن الجدران الإيرانية كانت أضعف.

وتركيا، التي تتأرجح بين أحلام العثمانيين الجدد وكوابيس العزلة الدولية، تسير على نفس الحبل المشدود. فهل يعقل أن تكون طائرات الجيش التركي من جيل الأمس، بينما جارتها اليونان تتسلح بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا الغربية؟ أليس غريباً أن تُباع أسرار الدولة في السوق السوداء، بينما يُسجن الصحفيون لأنهم فضحوا بيع الوهم؟ الفساد هنا ليس رشوةً تأخذها يد، بل هو ثقب أسود يبتلع مستقبل أمة. أردوغان، الذي راهن على تحالفه مع الشرق والغرب، وجد نفسه في النهاية وحيداً كشجرةٍ بلا ظل. صفقات “إس-400” لم تكن سوى ورقة خاسرة في لعبةٍ كبرى، تركيا فيها مجرد حجر على رقعة الشطرنج الإقليمي.

إسرائيل، من جانبها، لم تنتظر طويلاً. لقد فهمت أن الفراغ لا يتحمله التاريخ، فملأته بقوةٍ لا تعرف التردد. من السماء، أصبحت سيدة الموقف، تحرك قطع الشطرنج كما تشاء. ومن الأرض، رأت كيف أن القمع والفساد يصنعان لها حلفاءً دون أن تدري. فمن يحتاج إلى جاسوسٍ حين تكون المؤسسات نفسها جاسوسة؟ ومن يحتاج إلى حربٍ شاملة حين تكون الأنظمة تقتل نفسها بنفسها؟ إيران، التي أمضت أربعين عاماً تبني إمبراطورية الميليشيات، رأت كيف تتهاوى أحلامها في عامٍ ونصف. وتركيا، إن لم تستفق من سباتها، قد تكون الفصل التالي في سقوطٍ لم يعد مستغرباً.

لكن التاريخ لا يكرر نفسه بحذافيره، بل يعيد إنتاج المأساة بأشكالٍ جديدة. الأكراد، الذين ظلوا لعقودٍ ورقة ضغطٍ في يد الجميع، قد يجدون في الفوضى القادمة فرصتهم الأخيرة. واللاجئون، الذين حوّلتهم السياسة إلى أرقامٍ في معادلاتٍ قذرة، قد يصبحون جيشاً بلا وطن يبحث عن أرضٍ تأويه. الاقتصاد التركي، الذي بدأ يترنح تحت وطأة الفساد والمشاريع الوهمية، قد ينقلب إلى كابوسٍ لا يوقظ منه إلا الصرخات.

في النهاية، السؤال ليس عمن سينتصر في هذه المعركة، بل عمن سيبقى بعد أن تنتهي اللعبة. إسرائيل تدرك جيداً أن القوة لا تُقاس بعدد الصواريخ، بل بقدرة النظام على الصمود. وإيران تتعلم بالدم أن القمع لا يصنع أمناً، بل يصنع قنبلة موقوتة. أما تركيا، فما زال لديها خيارٌ واحد: أن تستيقظ قبل أن يصبح الإصلاح مستحيلاً، أو أن تنضم إلى قائمة الدول التي دمرها حكامها أكثر مما دمرها أعداؤها.

الدرس واضحٌ كالشمس: لا وطن بلا عدالة، ولا عدالة بلا حرية، ولا حرية بلا شعبٍ يرفض أن يكون ضحيةً لفسادٍ قاتل. فهل من مستمع؟

السويد

17.06.2025

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…