بدأت أحداث قامشلي في 12/3/2004م، ونحن أبناء القومية الكردية وبعد سماعنا بوجود إصاباتٍ بين الشباب؛ فاجتمع بعضٌ من أبناء الحيّ في الساعة العاشرة صباحاً، وقاموا بالتواصل مع أصحاب المحلات على الشارع العام للتضامن مع أبناء جلدتهم في قامشلو وإغلاق المحلات.. وما هي إلا لحظات حتى علت الأصوات وسمعنا بنبأ استشهاد بعض الشباب في قامشلو.. فقام الجميع بإغلاق المحلات.
جاء نبأ آخر مفاده أنّ الطلبة الكرد في حرم جامعة دمشق قاموا بالاعتصام فما كان منّا إلا الاتفاق على أنْ نمشي سيراً على الأقدام إلى جسر المزة، أو مفرق مشفى المواساة؛ للتواصل معهم، ومن ثمّ إكمال المسير.. وبعد المناوشات بين الذهاب أو اللاذهاب جاءت سيارةٌ من مخفر دمّر البلد بسرعةٍ جنونيةٍ، وقام الضابط بإبراز مسدّسه والحديث بكلماتٍ نابيةٍ.. فما كان من أحد الشباب إلا أنْ خطف المسدس من يديه، وقام أحد أصحاب المحلات بسحب الضابط إلى محلّه، وقام الشباب البقية بقلب السيارة العسكرية.. وما هي إلا لحظات حتى جاءت سيارتان غير التي قلبها الشباب؛ فقمنا بالهجوم نحو السيارتين؛ لأنّ الأنباء أكدّت سقوط شهداء نتيجة إطلاق الرصاص الحيّ في قامشلو..
وهنا قرّرنا جميعاً السير من دون النظر للخلف.. مشينا سيراً على الأقدام من زورآفا مروراً بجسر دمر على طريق الربوة، وقبل الوصول إلى جسر المزة أو مفرق مشفى المواساة رأينا أنّ قوات الأمن قد أغلقوا الطريق، ولم يعد بالإمكان الإكمال والوصول للالتحام مع طلاب جامعة دمشق.. وما هي إلا لحظات حتى جاء إلينا مجموعةُ رجالٍ 3-4، من بينهم هيثم المالح وحاولوا تهدئة الأمور وإطفاء النار الملتهبة في صدور الشباب الكرد..
وهنا قمنا بالرجوع إلى زورآفا بحكم أنّ الطريق مغلقةٌ.. وعند الدخول مباشرةً قام الجيش العربي السّوريّ بحصار أهل زورآفا في المنطقة وإغلاق كلّ المنافذ من جهة الربوة، ومن جهة قاسيون، وكذلك ومن جهة مشروع دمر، ومن خلف زورآفا (قصر الرئاسي).
عند ذلك قامت القوات بالدخول للوادي، وحدثت مناوشاتٌ، وتدخّلت قوات حفظ الأمن؛ فقام النظام بإطلاق الرصاص القنابل المسيلة للدموع مما أدّى إلى جرح أكثر من شخصٍ من بينهم (المرحوم أحمد جميل بكر) الذي أصيب في فكه السفلي، وبقي أهل زورآفا في الوادي، وأحكم النظام سيطرته بإغلاق جميع المنافذ..
في اليوم التالي كنّا في مأزقٍ بما أنّ المنافذ مغلقةٌ، والمناوشات بين مدٍّ وجزرٍ.. هنا تدخّل الدكتور سربست نبي، وبعد الاتصال مع مسؤول كتيبة حفظ النظام قرّر السماح فقط للنساء بالخروج لشراء الخبز والاحتياجات من دمر البلد أو مشروع دمر..
في صبيحة يوم 15/3/2004م ما بين الساعة الخامسة إلى السابعة صباحا تدخّلت قوات الأمن من جميع المنافذ، وقامت باعتقال جميع من أعمارهم بين 16 إلى 60 سنة.. عند اقتيادي مع والدي الذي كان يمشي ببطءٍ وأنا محنيّ الرأس إلى الأسفل ومقيد من الخلف كمجرم حربٍ، أو كشخصٍ يريد تقسيم سوريا إلى نصفين، أو كجاسوسٍ لإسرائيل كُشف أمره.. وما هي إلا لحظات وكان الحذاء العسكري على ظهري.. هنا دمعت عيناي.. قال الضابط لأبي: أنت أيّها الكهل.. ارجع لمنزلك لا نريدك.. عندما سمعت ذلك من الضابط، قلت: في نفسي الحمد لله.. نظرتُ لوالدي وعيناه تنظران إليّ وكأنّه يقول: اذهب أنا فخورٌ بك اذهب نحن أصحاب قضية..
كانت باصات النقل الداخلي الخضراء تنتظر عند مشفى الباسل للأمراض القلبية.. أتذكّر المشهد، ولا أنسى دموع الأمهات على أبنائهم، وكأنّ الكرد قد سيقوا مجدداً إلى أنفالٍ جديدة كما في العراق..!.
عند السابعة كانت مئات الباصات قد مُلئت بشباب ورجال زورآفا، وكان بينهم من الحزب الشيوعي ومن الإخوة العرب، وسارت الباصات، وتم توزيعنا على جميع سجون دمشق.. الباص الذي كنت فيه وصل إلى فرع الفيحاء.. وهناك تمّ تجميعنا في باحة السجن الكبيرة ورؤوسنا نحو الأرض، ولا نعلم ما مصيرنا.. ولا تعلم من أين تأتيك لكمة أو رفسة أو أخمص بندقية.. وبقينا حتى الظهر قاعدين ورؤوسنا للأسفل، ومن ثمّ تمّ توزيعنا على زنزاناتٍ تحت الأرض.
الزنزانة التي كنا فيها كانت بحوالي 3/3م شبه فارغة، ويوجد فيها حمامٌ صغيرٌ.. كنا أكثر من 40 شخصاً والمصير مجهول.. بقينا واقفين؛ لأنّه لا مكان للجلوس.. رأيتُ على جدران السجن كلمات مكتوبة عن الحرية، والطيور تطير، وعاش أوجلان.. هنا استغربت من الكم الهائل من الكلمات.. كم من أبناء الكرد دخلوا الزنزانة..! وما كان مصيرهم..؟.
بقينا حتى صباح اليوم التالي من دون طعامٍ.. كنا مثل الأموات ولم يكن هنالك سوى حمامٍ فقط، وعلينا الشرب من صنبور الماء في الداخل.. وعند الظهيرة جاء أحدهم وفتح الباب، أخرجونا وفي كل متر كان هنالك عسكريّ يحمل بيده عصاه.. وبدأ الضرب من الطابق السفلي أو القبو إلى الأعلى، وعند وصولنا وجدنا باصاتٍ قامت بأخذنا إلى سجن عدرا المركزي.. وكالعادة تمّ ضربنا وشتمنا من المدخل مكان نزولنا حتى الطابق الثاني.. بقينا أربعة أيام ونحن نعاني كمعتقلي غوانتانامو.. تحقيق وضرب وقذف وشتم.
في اليوم الثالث فتحوا أبواب الزنزانة وقالوا: اركبوا الباصات.. هنا تذكّرت وبصدقٍ مقالاً قرأته عن عمليات الأنفال واقتياد الكرد من كردستان العراق إلى السماوة ودفنهم أحياء..
ومرة أخرى تم تجميعنا في ساحة سجن الفيحاء، وكان هنالك ضابطٌ كبيرٌ عرّف عن نفسه أنّه (غازي كنعان) ومعه أشخاصٌ لم أعرفهم.. وبدأ حديثه عن أنّنا في سوريا أبناء بلدٍ واحدٍ ويجب أنْ ندافع عنه لا أنْ نقسّمه.. (كلمات البعث الطنانة..)، وفي ختام حديثه قال: تم العفو عنكم بموجب مرسومٍ من الرئيس إلا بعض المخربين وهم 15 شخصاً.. وعلينا أنْ نهتف جميعاً ونصفق للقائد.. وهنا لم أتمالك نفسي من البكاء على إخوتي الذين لن يتمّ الإفراج عنهم وبينهم أعزّ أصدقائي والمعتقل السابق جوان خالد..
وفي صبيحة اليوم التالي عند الخامسة صباحاً جاءت دورية أمنٍ وقامت بإلقاء القبض على شابين آخرين.. هنا بدا النظام بألعابه الدنيئة، في كل يوم يعتقل شباباً آخرين؛ بهدف كسر شوكة الكرد في زورآفا ومن أهمّ المطلوبين كان راجال تمر مصطفى وكوهدار حاج حمو..
بعد يومين فقط جاء شابٌّ كان مسجوناً في صيدنايا، وقال هنالك أسماءٌ كثيرةٌ كانوا يبحثون عنها ومن بين الأسماء قال اسمي أيضاً.. لم أتوقّع ذلك، لكنْ مع بعض التحليلات تبيّن أنّ معظم الأسماء كانوا من فرقة (آرخوان) للفلكلور الشعبي.. وأنّ لافتات أول مظاهرةٍ أمام مجلس الشعب قد أنجزت في منزلي وبشهادة (حزب يكيتي).
هنا لم يكن عليّ إلا أنْ أهرب.. وبعد أنْ علمت بفصل الطلاب الجامعيين.. قررت الرحيل وهنا المصيبة.. كيف.. ومتى..؟ وفي النهاية تواصلت مع إحدى شركات النقل مقابل مبلغٍ ماديٍّ، وغادرتُ دمشق إلى قامشلي وذهبت لبيت المرحوم (خطيب كلش أبو خوندكار)، الذي كان منزله في زورآفا بمثابه نقطة البداية للحرية.. للفكر.. لمعرفة الهوية والقومية الكردية ، منزله الذي لطالما كان منزلاً لأحرار الكرد في دمشق العروبة.
وهنالك علمتُ بأنّ زوجة المرحوم (أمّ خوندكار) قد تمّ اعتقالها بتهمٍ باطلةٍ، وتمّ تعذيبها بالكهرباء..! ومن هناك سافرتُ إلى كردستان العراق إلى مخيمٍ يدعى مخيم (مقبلى) لللاجئين الكرد السّوريين وفيه صادفت كوهدار حاج حمو المطلوب للنظام بتهمة قتل عسكريٍّ في الجيش، وكذلك المرحوم أحمد جميل بكر الذي أصيب في دمشق بكسرٍ في الفكّ السفلي.. ويلماز عبد الكريم ابن المرحوم عبد الكريم (أبو يلماز) الذي أصيب بتلف الرئتين في سجون النظام ولم يبقَ سوى عدّة أيامٍ في المشفى ووافته المنية.
===========
* ناشط سياسي حقوقي