خارطة الشرق الأوسط تُعاد صياغتها… وإسرائيل تتحول إلى سيدة اللعبة

أزاد فتحي خليل*

 

بين احتراق الأنفاق في غزة، وتفكك شبكات القيادة في الضاحية الجنوبية، ومقتل أبرز قادة الحرس الثوري الإيراني، تُكتب فصول جديدة في المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط. هذه ليست مجرد عملية عسكرية عابرة، بل هي إعادة ترتيب دراماتيكية لتوازنات القوة، وتحولات استراتيجية تتجاوز المعارك اليومية، لتعيد صياغة الخريطة السياسية للمنطقة على نحو جذري. واللاعب الذي يتقدّم بخطى ثابتة وسط هذا الحطام: إسرائيل، التي باتت تفرض إيقاع الأحداث وتسحب البساط من تحت خصومها، الإقليميين والدوليين على حد سواء.

من غزة بدأت الرواية

السيناريو المثير بدأ من غزة، حينما سُمح – أو ربما تم التسهيل بشكل مقصود – لعناصر من كتائب القسام بالتوغل داخل المستوطنات الإسرائيلية، وارتكاب عمليات قتل وخطف أثارت الرأي العام الدولي. وسواء تم ذلك بتراخٍ أمني مقصود أو بسوء تقدير، فإن ما أعقب هذه العمليات كان مزلزلاً: إسرائيل استعادت المبادرة العسكرية والسياسية، وشنّت حملة عسكرية غير مسبوقة دمرت خلالها البنية التحتية لحركة حماس، وسحقت الأنفاق التي كانت تمثل شرايين المقاومة ووسائل التواصل والتخفي.

لكن ما هو لافت في هذه المرحلة، أن المعركة لم تكن ضد غزة فقط. لقد جرى تسويق العملية أمام العالم كمعركة “ضد الإرهاب الإسلامي الراديكالي”، مع تشديد رمزي على تلاقي أعداء إسرائيل من غزة إلى لبنان، مروراً بسوريا والعراق، ووصولاً إلى إيران. هكذا تم بناء المظلّة السياسية للعملية، التي لم تكن في الحقيقة إلا المرحلة الأولى من خطة أكبر بكثير.

الحرب على الجبهة الشمالية: تصفية الحساب مع حزب الله

ما إن اشتد القصف الإسرائيلي على غزة، حتى دخل حزب الله اللبناني على خط المواجهة، في محاولة لـ”تثبيت معادلة الردع”، فأطلق عشرات الصواريخ على شمال إسرائيل. غير أن الرد الإسرائيلي لم يكن عادياً هذه المرة. بل بدا أن إسرائيل كانت تترقب لحظة الانقضاض، وقد أعدت بنك أهداف نوعي استهدف البنية القيادية للحزب لا قواعده فقط.

أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وفق ما تسرب من تقارير استخباراتية، اخترقت أنظمة الاتصالات القديمة للحزب، بما فيها أجهزة البيجر والهواتف الآمنة، وحددت مواقع القيادة ومراكز القرار، لتنفذ بعدها سلسلة من الضربات الدقيقة التي حصدت أكثر من 6000 عنصر، بينهم قيادات ميدانية بارزة. بل إن بعض التسريبات تشير إلى أن حسن نصرالله نفسه قد قُتل أو أصيب بجروح بالغة في إحدى تلك الضربات، في عملية غامضة شلت ذراع حزب الله نهائياً في المنطقة.

الإنذار الأخير لبشار الأسد… وسقوط النظام

بعد تصفية الجزء الأكبر من التهديد في غزة وجنوب لبنان، نقلت إسرائيل المعركة إلى طور سياسي-عسكري أشمل. وجهت تهديدًا علنيًا لبشار الأسد، بضرورة فكّ الارتباط مع طهران والانسحاب من “محور المقاومة”. الرد لم يكن على قدر التوقعات. النظام السوري بدا مترنحاً، مكشوف الظهر، ومعزولًا حتى عن أقرب حلفائه. وفي ظرف أسبوعين فقط، انهار الجزء الأكبر من بنيته، وسط انشقاقات داخل أجهزة الأمن وتقدم مجموعات محلية في مناطق الجنوب والشمال.

كانت هذه لحظة فارقة. ليس فقط في تاريخ سوريا ما بعد الثورة، بل في بنية المعسكر الذي كان يسمى قبل سنوات “محور الممانعة”. الأسد، الذي صمد طوال عقد من الحرب، وجد نفسه وحيدًا في مواجهة عاصفة سياسية-عسكرية لا قِبَل له بها.

تركيا أمام مرآتها: رسالة أوجلان وتخوف أنقرة

في هذا المناخ الإقليمي المتفجر، وجدت تركيا نفسها في وضع لا تُحسد عليه. الزلزال السياسي الذي أطلقه نتنياهو تجاوز حدود الجغرافيا، وبدأ يُلقي بظلاله على الداخل التركي، حيث يعيش أكثر من 30 مليون كردي محرومون من حقوقهم القومية والسياسية. في هذه اللحظة الحرجة، صدرت رسالة مفاجئة من الزعيم الكردي المعتقل عبدالله أوجلان، دعا فيها إلى إنهاء الصراع المسلح وحلّ حزب العمال الكردستاني سياسيًا، في خطوة اعتبرها البعض محاولة استباقية لاحتواء ارتدادات الإعصار القادم.

الرسالة قُرئت داخل أنقرة كتحذير: إما الانفتاح على حل تاريخي للقضية الكردية، أو مواجهة انفجار داخلي قد يتزامن مع تحولات إقليمية تضعف من مركز الدولة وتُربك حساباتها.

إيران: من الحصار إلى التفكك؟

اللاعب الأكثر تضررًا في هذا المخطط هو بلا شك إيران. فبعد سنوات من بسط النفوذ في العراق، سوريا، لبنان، واليمن، وجدت نفسها هدفًا مباشراً. في واشنطن، التقى نتنياهو بولي العهد الإيراني السابق محمد رضا بهلوي، في مشهد رمزي يحمل دلالات العودة إلى ما قبل الثورة. كما جرى تنشيط المعارضة الإيرانية في الخارج، وعلى رأسها منظمة “مجاهدي خلق” بقيادة مريم رجوي، استعدادًا لاحتمالات السقوط، سواء عبر حراك شعبي، انقلاب داخلي، أو حرب استنزاف.

وفجر اليوم، شنت إسرائيل هجومًا جويًا دقيقًا استهدف مقرات الحرس الثوري في طهران وأصفهان، ما أسفر عن مقتل عدد من كبار القادة العسكريين. الهجوم، الذي نفذ بمستوى عالٍ من الاحتراف الاستخباراتي، شكّل ضربة مباشرة لقلب المؤسسة العسكرية-الأمنية الإيرانية، وأعلن بوضوح أن زمن الردع الإيراني قد انتهى.

الكُرد: من ضحايا التاريخ إلى شركاء في المستقبل

وسط هذه التحولات، يبرز الكُرد كأحد أكثر الشعوب استعدادًا لاستثمار اللحظة. بعد أن كانوا أكبر الخاسرين في خرائط ما بعد سايكس-بيكو، ها هم اليوم أمام فرصة نادرة لفرض وجودهم كشركاء حقيقيين في رسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة.

في شمال شرق سوريا، تواصل الإدارة الذاتية تعزيز بنيتها المؤسساتية، وتنسج علاقات دولية متقدمة، وتُقدم نفسها كنموذج للحكم المحلي والتمثيل المتعدد. وفي كردستان العراق، يتطلع الكرد إلى توظيف الظرف الدولي لتعزيز استقلاليتهم السياسية والاقتصادية، بينما في تركيا وإيران، تتحرك المجتمعات الكردية بثقة أكبر، متسلحة بالتجربة، والمعاناة، والدروس القاسية.

لقد ولّى الزمن الذي كان يُنظر فيه للكُرد كعنصر قابل للتجاهل. اليوم، هم رقم صعب في أي معادلة إقليمية، وأحد أبرز اللاعبين الذين يمكنهم التأثير في مآلات الصراعات أو ترجيح كفّة الحلول.

المنطقة على صفيح ساخن… والنهاية مفتوحة

ما يجري الآن لا يمكن اختزاله في كونه سلسلة من العمليات العسكرية. نحن أمام إعادة صياغة شاملة للعقيدة الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط، تتقاطع فيها المصالح الإسرائيلية والأمريكية مع طموحات شعوب ظلت مهمشة لعقود. المعركة لم تنتهِ بعد. فكلما اقتربنا من نهايات الأنظمة القديمة، زادت شراسة محاولاتها للبقاء. ومع كل ضربة، تنكشف هشاشة المشاريع التي بُنيت على الإنكار والاستبداد.

النظام الإيراني بات مشلولًا، عاجزًا عن الرد أو المبادرة. النظام السوري يتهاوى، وحزب الله في أسوأ حالاته منذ تأسيسه. وفي المقابل، تبرز إسرائيل كلاعب حاسم، ترسم المشهد وفق رؤيتها، وتُهيئ المسرح لمعادلات جديدة قد لا يكون فيها مكان لكثير من الكيانات القديمة.

أما تركيا، فعليها أن تتّعظ من التجربة. فالدولة التي ترفض الاعتراف بحقوق شعبها الكردي، تبني بيتًا أوهن من بيت العنكبوت. التاريخ لا يرحم، ومن لا يعترف بالشعوب، يُدهَس تحت أقدامها حين تتحرك

============

*كاتب وباحث سياسي 

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…