حقّاً إنّها انتفاضة العزّ والكرامة قبل أنْ تكون انتفاضةً؛ لرفع الظلم ونيل الحقوق..!.
لا شكّ بأنّنا لم ولن ننسى تلك الأيام العصيبة، التي مرّ بها شعبنا الكرديّ في كردستان سوريا أيام الانتفاضة، حيث تحوّلت المدن والأحياء الكردية إلى ساحات حربٍ في مواجهة الجيش والأجهزة الأمنية التابعة للنظام البعثيّ في سوريا، حيث قامت تلك الأجهزة بعملياتٍ انتقاميةٍ ضدّ شعبنا الكرديّ الأعزل، الذي رفض مخططات النظام القمعيّة والتّرهيبيّة، وانتفض في وجهه.
ففي الوقت الذي كنّا نتابع فيه الأحداث الدراماتيكية على الساحة العراقية، حيث تنفّست شعوب المنطقة- التي تعيش تحت سلطة الأنظمة الاستبدادية- الصُّعداء بسقوط النظام الدكتاتوريّ الدمويّ في العراق، وخاصة الشعب الكردي- وبعد عشرات السنين من السياسات والمشاريع العنصرية والشوفينية المطبّقة بحقّ شعبنا الكرديّ وإهمال مطالبه الديمقراطية والقومية- تفاجأنا بالمخطط الإجراميّ للنظام السّوريّ في الملعب البلديّ في قامشلو، حيث تعاملت قوات النظام من الشرطة والأمن بالرصاص القاتل مع الجماهير الكردية المسالمة، التي رفضت التّصرّفات الاستفزازية المهينة والهتافات المسيئة للكرد ورموزه القومية من قبل مشجّعي فريق الفتوة القادم من محافظة ديرالزور، والمهيّأ لتنفيذ ما كلّف به في ظلّ حمايةٍ ومساندةٍ أمنيةٍ واضحةٍ للحاضرين، وكان لمحافظ الحسكة سليم كبول دورٌ سلبيٌّ ومكملٌ لمخطط الجهات الأمنية، حيث أوعز للعناصر الأمنية وقوات حفظ النظام بإطلاق النار على الجماهير الكردية المحتشدة في وأمام الملعب، كونه رئيس اللجنة الأمنية وممثّل رئيس الجمهورية في المحافظة.
وبالرغم من سقوط العديد من الشهداء و الجرحى في الملعب، تبيّن فيما بعد بأنّ النتيجة لم تلبِّ الأهداف المرسومة من قبل الأجهزة الأمنية، من أحداث الملعب.
في اليوم التالي خرج أهالي مدينة قامشلو عن بكرة أبيهم- وكذلك استطاعت أعدادٌ كبيرةٌ من الشباب في منطقة الجزيرة من الوصول إلى مدينة قامشلو- للمشاركة في تشييع الشهداء، حيث كان التّحديّ والغضب طاغياً على المشيّعين، وعلى وجه الخصوص فئة الشباب، وأثناء التشييع بادر الجيش وقوات الأمن مرةً أخرى بإطلاق الرصاص العشوائي على موكب التشييع؛ فسقط المزيد من الشهداء والجرحى، فأدّى ذلك إلى انفجار غضب الشباب، فهاجموا المقرّات الأمنية والحزبية والدوائر الحكومية، وأحرقوا أعلام حزب البعث والجمهورية، فهربتِ العناصر الأمنية والحزبية وتواروا عن الأنظار- وهناك أقوالٌ تفيد بأنّ قسماً من هؤلاء هربوا إلى خارج المدينة- كما تمّ رفع العلم الكرديّ فوق بعض المنازل.
هذا وجاء ردّ فعل الجماهير الكردية على الغدر والتعامل الأمني القمعي لقوات النظام السّوريّ مع أهلنا في قامشلو قوياً وعنيفاً في كلّ الأماكن التي يتواجد فيه شعبنا الكرديّ في سوريا.
فخرجتِ الجماهير- شيباً وشباباً، صفاً واحداً- على شكل مظاهراتٍ احتجاجيةٍ غاضبةً في كلّ المدن والبلدات الكرديّة في سوريا، حيث سطّر شبابنا ملاحم من البطولة والفداء في تلك الانتفاضة، فرفضوا الخنوع وتصدّوا لرصاصات الجيش والأمن السّوريّة بصدورهم العارية، ورفعوا شعاراتٍ مناهضةً للنظام، وهاجموا مقرّاته الأمنية والحزبية والدوائر الحكومية، وأحرقوا العديد منها، وأسقطوا تمثال الرئيس في مدينة عامودا، ونتيجة التعامل الوحشي والعنف المفرط من قبل الجيش وقوات الأمن مع المنتفضين، سقط المزيد من الشهداء والجرحى.
كما أقدمت السلطات الأمنية على توجيه بعض النفوس الضعيفة من العشائر العربية لنهب وسرقة المحلات التجارية العائدة للكرد في منطقة الجزيرة وحرق العديد منها، وبنفس الوقت تمّ تسليح تلك الفئة من العشائر تحضيراً للخطوة التالية ألا وهي اقتتالٌ عربيٌّ- كرديٌّ؛ لحرف الحدث عن مساره وتسخيره لأجندات النظام الأمنية.
التضامن والتعاضد الذي أظهرته الجماهير الكردية- من ديركا حمكو إلى الأحياء الكردية في مدينة دمشق وجامعتها، مروراً بجل آغا وتربه سي وقامشلو وعامودا والدرباسية وسرى كانية وتل تمر والحسكة ومنطقة كوباني ومنطقة الباب (تل حاصل وتل عران) ومنطقة عفرين والأحياء الكردية في مدينه حلب وجامعتها- أثبتت بأنّ مدينة قامشلو ليست وحيدةً ولا يمكن الاستفراد بها والنيل منها، والشعب الكردي يتوحّد في وجه كلّ عملٍ يمسّ وجوده وكرامته.
وفي ذات الوقت رسم الشهداء بدمائهم إحداثيات الجغرافية الكردية وحقيقة وجودها للرأي العام السّوريّ والعالميّ على الخارطة السّوريّة.
وبالتوازي مع التكاتف التاريخي والمشرّف بين الإخوة في روج آفاي كردستان، الذي فاجأ الأصدقاء قبل الأعداء، كان هناك تضامنٌ جماهيريٌّ وتغطيةٌ إعلاميةٌ للحدث من قبل الإخوة في الأجزاء الأخرى من كردستان.
هذا وتمّ استيعاب طلاب الكرد- الذين تم فصلهم وطردهم من الجامعات السّوريّة على خلفية المشاركة في الانتفاضة- في جامعات إقليم كردستان العراق.
بعد خروجي من السجن- بعد سنة- سمعتُ من بعض الأصدقاء “بأنّ الرئيس مسعود البارزاني تدخّل وطلب من الأمريكان أنْ يضعوا حدّاً للنظام السّوريّ، كي يتوقّف عن استخدام العنف ضدّ أبناء شعبنا”.
توحّد الصّفّ الجماهيريّ والسياسيّ الكرديّ في الداخل والتضامن الكردستاني معه، امتدّ إلى الساحة الدولية وخاصة الأوروبية، فكانت المظاهرات والتجمعات الاحتجاجية للجالية الكردية أمام سفارات النظام السّوريّ بمستوى قوة وحجم الحدث، وكان لتلك الأنشطة الاحتجاجية- بالتوازي مع الداخل- دورٌ كبيرٌ في إظهار حقيقة النظام الاستبداديّ والقمعيّ في دمشق، وذلك بإظهار تعامله الوحشيّ مع الجماهير الكردية المنتفضة ضدّ الظلم والحرمان، أمام الرأي العام الأوروبي والعالميّ.
ولحسن حظّ شعبنا الكرديّ- في ذلك الوقت- كنّا في عصر الإنترنت ووسائل التواصل والإعلام الحديثة، حيث كان هناك فضائياتٌ وصفحاتُ إنترنت والهاتف الخلوي.. وبالتالي استطاع النشطاء الإعلاميّون والسياسيون في الداخل نقل الحدث- صوتاً وصورة- إلى الخارج عبر تلك الوسائل، لفضح مخططات النظام وتعامله الوحشيّ والدمويّ مع شعبنا المسالم، فشكّل ذلك- وبالتوازي مع احتجاجاتٍ للجالية الكردية في الخارج- ضغطاً لا يستهان به على النظام السّوريّ؛ لكي يتراجع عن مخططاته الإجرامية بحقّ شعبنا الأعزل، وبنفس الوقت كان مبعثاً لرفع معنويات الشارع الكرديّ.
ومن اليوم الأول- بعد أحداث الملعب- أقدمت السلطات الأمنية على حملة اعتقالاتٍ بحقّ أبناء شعبنا الكرديّ في مدينة قامشلو، وبعد تخفيف مظاهر الاحتجاج في الشارع اتسعت تلك الحملة لتشمل كلّ المناطق الكردية، حيث شملت الآلاف من أبناء شعبنا الكرديّ، ومن كلّ الأعمار، وكان للشخصيات السياسية نصيبٌ فيها، حتى الجرحى اعتقلوا من المستشفيات؛ لذلك وبالتعاون الكبير الذي أبداه الأطباء والممرضون الكرد تمّت معالجة أغلبية الجرحى في المنازل، واعتُقل بعض الأطباء نتيجة ذلك.
أغلبية عمليات الاعتقال تمّت عن طريق قوات المداهمة، التي جلبها النظام إلى المناطق الكردية بهدف قمع الانتفاضة، ووضع الشارع الكرديّ تحت إرهابها.. وقد أدّى ذلك إلى فرار المئات من أبناء شعبنا إلى كردستان العراق؛ هرباً من الاعتقال والملاحقة الأمنية.
ففي فترة الاعتقال تعرّض المعتقلون لكافة أنواع التعذيب وبأبشع الأساليب بما فيها الخازوق، واستشهد بعضٌ منهم نتيجة التعذيب الوحشي في الفروع الأمنية، وأصيب بعضهم الآخر بعاهاتٍ دائمةٍ.
أثناء تواجدنا في السجن- سجن غويران، صيدنايا، عدرا- شاهدتُ آثار التعذيب على أجساد الكثير من المعتقلين، حتى جروح بعضٍ منهم لم تندمل بعد، وسمعتّ من المعتقلين الكثير عن أساليب الترهيب والتعذيب والتحقير الذي تعرّضوا له أثناء الاعتقال وفي مراكز الاعتقال، والملفت، أنّ تلك الممارسات كانت متشابهةً في كلّ المناطق، وهذا يدلّ على أنّ التعليمات كانت تأتي لهم من المراكز الأمنية في دمشق.
منذ الساعات الأولى من المجزرة التي حصلت في الملعب البلديّ تحرّكت قيادة الحركة الوطنية الكردية في سوريا لمتابعة أوضاع الجرحى في المستشفيات، والتحضير لموكب تشييع الشهداء، وناشدوا الجماهير الكردية للمشاركة فيه، واجتمعت في نفس اليوم تحت سقفٍ واحدٍ وقرروا العمل معاً، ومخاطبة الرأي العام الكرديّ والسّوريّ والعالميّ باسم “مجموع الأحزاب الكردية في سوريا”، وقد تجسّد خطابهم بخصوص أحداث الملعب وما تلاها من تطورات بالنقاط الآتية:
– الدعوة إلى التهدئة وعدم التصعيد لقطع الطريق أمام مخططات النظام، التي كانت تهدف إلى خلق فتنةٍ بين الكرد والعرب.
– مطالبة النظام للإفراج عن المعتقلين وتعويض عائلات الشهداء والجرحى والمتضرّرين، والكفّ عن ملاحقة واعتقال أبناء شعبنا الكرديّ.
– تشكيل لجنة تحقيقٍ محايدة؛ للتحقيق في أحداث الملعب البلديّ في قامشلو وتقديم الجناة للمحاكمة.
– حلّ القضية الكردية في سوريا بالطرق الدّيمقراطيّة.
هذا وشكّلت عدة لجانٍ حسب المتطلبات الميدانية، ومنها لجنة لمتابعة أوضاع الجرحى، ولجنة من المحامين؛ لمتابعة أوضاع الموقوفين والمعتقلين أمام محاكم الدولة، ولجنة مالية؛ لمساعدة الجرحى وعائلات المعتقلين وتعويض عائلات الشهداء من المساعدات التي كانت تأتيهم من الجالية الكردية في الخارج وأبناء شعبنا في الداخل.. واستمرّ عمل أطراف الحركة الكردية معاً تحت اسم “مجموع الأحزاب الكردية” أكثر من سنة (حتى إطلاق سراح المعتقلين).
لا شكّ بأنّ الحدث كان مفاجئاً للحركة والشارع الكرديّ معاً، وأكبر من قدراتها، حيث لم تكن هناك برامج وتحضيرات مسبقة لدى الحركة في هذا المجال، وحتى ذلك الحين لم تملك الحركة الكردية علاقاتٍ خارجيةً تبني عليها، وبالتالي لم تستطعْ فرض مطالبها على السلطة.
أمّا بالنسبة لوقف العمل المشترك للحركة الكردية تحت خيمةٍ واحدةٍ، وعدم التفكير بالاستمرار وتطوير الحالة إلى إطارٍ مؤسساتيّ- لتصبح فيما بعد مرجعيةً كرديةً- لم ينسجم مع تضحيات وتطلعات الشعب الكرديّ في تلك المرحلة، ويعدّ خطوةً إلى الوراء، وعدم تشكيل مؤسسةٍ دائمةٍ تُعنى بشؤون الجرحى والمعاقين وعوائل الشهداء والمعتقلين تعدّ نقطةً سوداءَ في تاريخ الحركة الكرديّة في سوريا.
بعد مدّةٍ ليست بطويلةٍ سلك الرئيس السّوريّ بشار الأسد أيضاً خيار التهدئة مع الشارع الكرديّ، وأقدم على اعترافاتٍ لم يقدم عليه أحدٌ من أسلافه، حيث فنّد ادعاءات إعلامه وأجهزته الأمنية حول علاقة المنتفضين مع الخارج، من جهةٍ، والادعاءات التي تصف الشعب الكرديّ بالمتسللين والوافدين من تركيا، من جهة ثانية، وذلك في حوارٍ خاصٍّ مع قناة الجزيرة 1/5/2004م، حيث قال: “إنّ التحقيقات قد أثبتت بأنّ أحداث قامشلي لم تكن وراءها أيادٍ خارجية، وأنّ القومية الكردية جزءٌ أساسيٌّ من النسيج السّوريّ ومن التاريخ السّوريّ، وأنّ إعادة الجنسية للمجرّدين منها بموجب إحصاء عام 1962م باتت في مراحلها الأخيرة من الحلّ”.
لاحظنا ذلك الانفراج في الوضع حينها- في سجن صيدنايا، ولكنْ لم نكن نعرف التفاصيل.. وبعد سنةٍ تمّ الإفراج عن المعتقلين بموجب عفوٍ رئاسيٍّ (طي الملف)، تمّ توديعنا بتهديدٍ من قبل أحد كبار الرؤساء الأمنيين “محمد منصورة” حيث قال لنا (في جلسة داخل السجن): هذا الاعتقال مجرّد فركة أذن، وإذا تكرّرت هذه الأعمال مرةً ثانيةً فسيكون العقاب كبيراً جداً، أكبر ممّا تتصورون.
وتبقى انتفاضة 12 آذار 2004 محطةً نضاليةً مشرقةً في تاريخ شعبنا الكرديّ في روج آفا كردستان، الذي يناضل من أجل حقوقه القومية والديمقراطية بالأساليب السلمية.
============
* ناشط سياسي من معتقلي الانتفاضة