حول وهم “الذكاء السياسي”: التذبذب لا يُعادل المرونة

جوان يوسف

في المشهد السياسي، كثيراً ما نلحظ تبدلات مفاجئة في مواقف بعض السياسيين والمثقفين، دون أن تصاحبها مراجعة علنية أو استناد إلى معطيات جديدة. يُسوّق البعض لهذا التغيّر باعتباره دليلاً على “الذكاء السياسي” أو “المرونة”، في حين أنه – في كثير من الأحيان – لا يتعدى كونه تعبيراً عن الانتهازية أو ضعف البوصلة القيمية.

المرونة السياسية – كما يعرّفها المفكر الألماني ماكس فيبر – هي قدرة الفاعل السياسي على التكيّف مع المتغيرات دون التفريط بالمبادئ الأساسية. أما التخلي عن المواقف الجوهرية دون نقاش علني أو تفكيك معرفي، فهو انزلاق نحو البراغماتية المفرطة التي تُفرغ السياسة من بعدها الأخلاقي.

وقد حذّر المفكر الفرنسي ريمون آرون من هذا النمط من السلوك حين قال إن “السياسي الذي يبدّل مواقفه كما يبدّل معطفه، قد ينجو مرحلياً، لكنه يفقد ثقة المجتمع على المدى الطويل”. هذا النوع من التبدّل غير المبرر يُضعف مصداقية الخطاب السياسي ويُكرّس فقدان الثقة بين النخب والجمهور.

أما الفيلسوف أنطونيو غرامشي، فقد فرّق بوضوح بين “المرونة الاستراتيجية” و”التذبذب التكتيكي”، مؤكداً أن القيادة الفكرية الحقيقية تقوم على قراءة الواقع من منظور مبدئي، لا من موقع التكيّف الانفعالي مع الضغوط الآنية.

إن الذكاء السياسي الحقيقي لا يكمن في تبديل المواقع كلما تغيّر اتجاه الريح، بل في القدرة على بناء موقف متماسك يستند إلى تحليل متجدد ومعطيات واقعية، دون التفريط بالبنية الأخلاقية للموقف. فالمبدأ ليس جماداً، لكنه أيضاً ليس مادة مطاطية تُشكّل بحسب الحاجة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…