كردستان في عين العاصفة: بين سندان المركز ومطرقة الهوية

بوتان زيباري

 

التاريخ لا يرحم من ينسى أن المظلومية ليست قدراً بل محطة في رحلة التحرر.

مقدمة: سؤال الوجود

لم تزل قضية كردستان العراق تتأرجح بين حلم الفيدرالية وكابوس الاندماج القسري، كسفينة تتقاذفها أمواج الجغرافيا السياسية. فمنذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، برزت المسألة الكردية كأعمق شقّ في جسد العراق الجديد، بل كـ “قضية ساخنة تثير سناريوهات البناء والدستور”قسد. لكن هذا السؤال الوجودي ليس وليد اللحظة؛ إنه امتداد لـ “رحلة العذاب الطويلة” التي بدأها الملا مصطفى البارزاني، من الحكم الذاتي إلى حلم الدولة الكبرى قسد. هنا، في هذا المفصل التاريخي، تقف كردستان على حافة الهاوية: هل تكون فيدرالية حقيقية أم مجرد وهم دستوري؟

الفيدرالية: حلمٌ معلّق على جدار الواقع

دستور 2005 رسم صورة وردية للفيدرالية، لكنها تحولت إلى لوحة مشوهة بفعل تناقض جوهري:

الاختلال البنيوي: بينما يشارك ممثلو كردستان في حكومة بغداد المركزية، يمنع الدستور نظراءهم العرب من إدارة شؤون الإقليم. هذه العلاقة “غير المتوازنة” تشبه لاعباً يتحكم بقواعد اللعبة دون أن يخضع لها.

الذاكرة الجريحة: يعيش الكرد تحت ظل إرث دموي؛ من حملة الأنفال التي محقت 4500 قرية، إلى مجزرة حلبجة التي ذهب ضحيتها 5000 كردي بسلاح كيماوي أمريكي الصنع  قسد. هذه الذاكرة تجعل الفيدرالية درعاً واقياً من “الانتقاص أو الإلغاء” لا مجرد نظام إداري  قسد.

الواقع الشائه: رغم الاعتراف الدستوري، تتعامل النخب العربية مع الفيدرالية كـ “خلل تاريخي” يجب تصحيحه. حتى المحكمة الاتحادية تحولت إلى أداة لـ “كسر حاجز الفصل بين السلطات” كما في قرارها الأخير بالتدخل في انتخابات الإقليم ورواتب موظفيه.

أدوات التدمير: ثلاثية السلاح والاقتصاد والقانون

لم تترك بغداد حجراً إلا ورفعته لتحطيم التجربة الفيدرالية:

السلاح الاقتصادي: تحجب الحكومة المركزية رواتب موظفي الإقليم كـ “ضغط سياسي” رغم وضوح الدستور قسد. هذا الحصار المالي ليس سوى “خرق واضح للدستور” يُحوّل حياة أربعة ملايين كردي إلى رهينة  قسد.

القانون كأداة قمع: تعمل المحكمة الاتحادية دون قانون ناظم منذ 18 عاماً، فتحولت إلى “مؤسسة سياسية” تنتهك صلاحيات البرلمان. قراراتها الأخيرة بإلغاء “كوتا” الأقليات في كردستان بينما تبقى في القانون الاتحادي، تكشف ازدواجيةً مقصودة.

الاحتكار السياسي: ترفض بغداد حتى اليوم تسليم حصة كردستان من عائدات النفط إلا عبر مصرف “دي إف آي” الأمريكي، جاعلة الإقليم “تحت رحمتها”  قسد. هذا رغم تسليم الإقليم كل نفطه لشركة “سومو” الوطنية!

الهوية المهددة: بين شقوق التاريخ

لا تكمن المعركة في القوانين وحدها، بل في صراع الهويات:

الخط الأحمر الإقليمي: تركيا وإيران وسوريا ترى في الفيدرالية الكردية “تجاوزاً لخطوط حمراء” تهدد كياناتها  قسد. فـ “المعادلة بسيطة”: فيدرالية كرد العراق توقظ شهية أكراد الجوار للانفصال.

اللعبة الأمريكية: دعمت واشنطن الأكراد ضد صدام، لكنها “تراجعت عن الوعد بالفيدرالية إكراماً لتركيا”  قسد. التاريخ يعيد نفسه: “خذلان أمريكي” من اتفاقية الجزائر 1975 إلى الهجرة المليونية عام 1991.

الوهم الدستوري: يقول الكاتب مصطفى الكاظمي إن الفيدرالية العراقية “لا مثيل لها في العالم”، فهي تفتت البلد بدلاً من توحيده. لكن حلّه بتقسيم العراق إلى إقليمين فقط (كردستان وبغداد) يتجاهل أن الفيدرالية الحقيقية تحتاج “إصلاح الحكومة المركزية أولاً”.

الخاتمة: نحو شمس جديدة

كردستان ليست مجرد إقليم، بل فكرة تقاوم الموت: فكرة الحق في الاختلاف دون خوف. لو أدركت بغداد أن الفيدرالية ليست “خطأ تاريخياً” بل ضمانة لوحدة العراق، لاختلف المشهد. لكن التاريخ يعلمنا أن الحقوق لا تُوهب بل تُنتزع. أمام الكرد خياران: إما الرضوخ لـ “معول الهدم” المركزي، أو كتابة فصل جديد من كفاحهم الطويل نحو حرية تُحترم فيها خصوصيتهم “الثقافية والحضارية واللغوية” قسد. الشمس التي تشرق اليوم على أربيل قد تكون غداً شمساً جديدة، إذا ما استمدت القوة من جبالها التي صقلتها العواصف. فهل تدرك بغداد أن كردستان ليست عدوّاً بل جسراً لعراقٍ لا يُبنى على أشلاء الهويات؟

الظل لا يمحو النور، بل يثبت وجوده“.

 

السويد

02.06.2025

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف إذ كان يمكن لشرنقة الصمت أن تكون أكثر أمنًا، وانفتاحاً على تحقيق المكاسب، وإذا كان للتأني أن يترجم حكمة، وللموقف أن يُرجأ باسم الواقعية، فإنني اخترت أن أضع اسمي حيث يتقاطع الخطر مع الانحياز. إذ لم تكن المغامرة بحثًا عن بطولة، بل اضطرارًا داخليًا، غريزيًا، لأن أقول “أنا” حين يُمسّ الضعيف. وكلما صار القول مكلفًا، قلتَه أكثر، لاسيما…

خالد بهلوي يُعدّ اختيار الكفاءات من أبرز العوامل التي تُسهم في تقدّم المجتمع ونجاح مؤسساته، إذا تم الاختيار ضمن مناخ ديمقراطي يتيح انتخابات حرّة ونزيهة، تُفرز عندها قيادات مسؤولة أمام الشعب، وتخضع للمساءلة القانونية في حال ارتكابها أخطاء مالية أو إدارية، أو في حال إهمالها قضايا وهموم من انتخبوها. عندما يُنتخب المسؤول من قبل الشعب، يجب عليه أن يعمل…

عبد الجابر حبيب في الأيام الأخيرة، ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بمقطع فيديو يُظهر عناصر من الجيش السوري يقومون بإهانة شيخ طاعن في السن، بحلق شاربه على الملأ، في صورة تجسّد انحطاطاً أخلاقياً صارخاً، وعنفاً رمزياً مؤلماً يتجاوز الفعل ذاته. هذا المشهد ليس مجرد انتهاك فردي، بل تمثيل فجّ لطريقة تفكير أمنية ترى في الكرامة الشخصية سلاحاً يجب كسره، وفي رموز…

إبراهيم اليوسف تأسيسًا على المسار الطويل لإفناء الهوية الدرزية، لا يبدو أن المسألة متعلقة بحادثة أو خلاف طارئ، بل ها نحن أمام صفحة جديدة من كتاب ممدود بالحقد، تُضاف إليه في كل عقد ورقة نار. حيث لم يكن التاريخ الدرزي سلسلة من الانعزال عبثًا، بل ثمرة جراح طاردت هذا المكوّن منذ القرن الحادي عشر، فألجأته إلى قلاع الجبل ومخازن الصمت،…