المفاوضات مع دمشق… إدارة أم قضية شعب؟ من الحاجة إلى الإصلاح الإداري إلى ضرورة التمثيل القومي الكردي

 

 

صلاح عمر

 

في تطور لافت، توجه وفد من الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا إلى العاصمة دمشق، لبدء جولة جديدة من المفاوضات مع الحكومة السورية. وهي جولة تختلف في الشكل والمضمون عن سابقاتها، وتحمل دلالات عميقة ومركبة، لا لكونها تعقد للمرة الأولى في دمشق فحسب، بل لأنها تمثل اختبارا عمليا لاستعداد النظام للتعامل مع ملفات اللامركزية والإدارة الذاتية، ولرغبة الإدارة في بلورة حلول تفاوضية بعيدا عن التجاذبات العسكرية أو الانتظارات الدولية.

لكن، وفي خضم هذا المسار الذي يفترض أن يلامس القضايا الإدارية والخدمية والأمنية (كتسوية أوضاع قسد، إدارة الموارد، ملف السدود، تبادل الأسرى)، يطرح العقل الكردي سؤالا مصيريا لا يمكن تجاهله:

هل هذه المفاوضات، بصيغتها الراهنة، تمثل الشعب الكردي وقضيته القومية في سوريا؟

أم أنها تعبّر فقط عن جسم إداري تكنوقراطي متعدد المكونات، يحاور السلطة المركزية حول صلاحيات وخدمات؟

التفاوض الإداري لا يغني عن الحل القومي

إن الإدارة الذاتية، كما يعرفها القائمون عليها، تمثل مشروعا ديمقراطيا متعدد المكونات، يضم الكرد والعرب والسريان والآشوريين والتركمان والشركس والشيشان، وقد أنجزت نموذجا إداريا ـ خدميا معقدا على مدى عقد من الزمن، في ظروف استثنائية. لكن هذا المشروع، وعلى الرغم من أن الكرد هم الفاعل الأساسي فيه، لا يحمل صفة التمثيل القومي الكردي المباشر، ولا يتبنى خطابا قوميا كرديا صريحا، بل ينطلق من “عقد اجتماعي” مدني الطابع، لا يتحدث بوضوح عن القضية الكردية كقضية شعب مضطهد منذ قرن.

من هنا، فإن أي مفاوضات تجريها الإدارة، رغم أهميتها وجديتها، لا يمكن أن تختزل على أنها تمثيل لتطلعات الشعب الكردي في سوريا، ولا أن تغني عن تشكيل وفد كردي قومي تفاوضي موحد، يتوجه إلى دمشق أو غيرها، حاملا مشروعا كرديا سياسيا تفاوضيا يعالج جوهر القضية، ويطرح رؤية واقعية لحلها في إطار الدولة السورية المستقبلية.

دمشق… بين “اللامركزية الإدارية” وهاجس الفيدرالية

يدرك المتابع أن النظام السوري البائد، والحالي بقيادة الرئيس أحمد الشرع، لا يزال يتعامل مع فكرة الإدارة الذاتية بوصفها حالة مؤقتة فرضتها الحرب والفراغ، وليس كنموذج بديل أو مقترح إصلاحي. وهو، في حال دخل في حوار جدي، سيكون أقصى ما قد يقدمه هو نموذج “اللامركزية الإدارية” وفق ما ورد في دستور 2012، أي صلاحيات محدودة للمجالس المحلية، دون الاعتراف بأي بنية سياسية أو أمنية أو اقتصادية مستقلة.

أما “الهيكلية الراهنة للإدارة الذاتية”، التي تضم قوات عسكرية (قسد)، ونظام قضاء ومحاكم، ومجلس تشريعي، فستكون موضع تفكيك أو إعادة صياغة من قبل دمشق، لأنها ببساطة تتجاوز مفهوم اللامركزية وتلامس حدود الفيدرالية.

لكن الخطر الأكبر لا يكمن في هذه الصياغات الشكلية، بل في احتمال تذويب الخصوصية القومية الكردية داخل هذا الإطار الإداري العام، بحيث تتحول قضية الشعب الكردي إلى مجرد بند إداري ـ خدمي، تماما كما أرادها النظام منذ الستينيات.

لماذا وفد كردي قومي موحد؟

إن مطلب تشكيل وفد كردي قومي تفاوضي موحد لم يعد مجرد اقتراح أو حلم سياسي، بل تحول إلى أولوية قومية عليا، بعد أن تبين أن التفرد بالتمثيل، أو غياب الرؤية التوافقية، قد أضاع على الكرد فرصا تاريخية خلال الثورة السورية.

وما يعزز هذا التوجه ويشرعنه سياسيا، هو ما صدر عن كونفرانس وحدة الموقف والصف الكردي المنعقد في 26 نيسان المنصرم، الذي شكل تحولا نوعيا في وعي القوى السياسية والاجتماعية والثقافية الكردية، حين أقر:

وحدة الصف الكردي كضمان لبقاء القضية حية على أجندة الحل في سوريا

ضرورة صياغة رؤية سياسية كردية وطنية وقومية مشتركة

تشكيل وفد تفاوضي كردي موحد يمثل الكرد بمرجعية واحدة في أي حوار مع دمشق أو عبر منصات دولية

إن هذا الوفد ينبغي أن يضم ممثلين عن المجلس الوطني الكردي، الإدارة الذاتية، المستقلين، الأكاديميين، والشخصيات الاعتبارية، ويتحرك بناء على وثيقة مطالب كردية موحدة تتضمن:

الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي كقومية ثانية في سوريا

تثبيت نظام حكم ذاتي أو فيدرالي كردي ضمن دولة ديمقراطية لا مركزية

ضمان الحقوق اللغوية والثقافية والتعليمية الكردية

الشراكة السياسية والاقتصادية العادلة في الدولة السورية الجديدة

الدور التركي… هاجس النظام وأداة التعطيل

لا يمكن فصل ملف المفاوضات الكردية ـ السورية عن العامل التركي، الذي يشكل هاجسا مركزيا للنظام السوري، ومعضلة يومية للإدارة الذاتية.

فأنقرة، التي تحتل أجزاء واسعة من شمال سوريا، تنظر بقلق عميق لأي تقارب كردي ـ سوري، وترى في أي اعتراف بالإدارة الذاتية، أو اندماج لقسد في الجيش السوري، تهديدا لأمنها القومي حسب تعبيرها.

وقد تسارع تركيا إلى استغلال أي فشل في المفاوضات، لفرض مزيد من الضغوط أو تنفيذ عمليات عسكرية جديدة، خاصة أن المناطق الكردية لا تزال عرضة للاستهداف شبه اليومي.

أما دمشق، فتخشى من أن يقدم لها هذا التفاوض فرصة اعتراف أمريكي ـ أوربي بإدارة كردية مستقلة على غرار كردستان العراق، لذلك فهي تمشي على حبل رفيع بين فتح الحوار دون تقديم تنازلات جوهرية، ومحاولة كسب الوقت حتى تتغير الموازين.

لا صوت يعلو فوق صوت المرجعية القومية

إن القضية الكردية في سوريا لا تختزل في إدارات ولا لجان خدمات ولا أوراق تفاوضية جزئية. إنها قضية شعب كامل، له جذوره التاريخية، وثقافته، وهويته، وحقوقه المغتصبة منذ تأسيس الدولة السورية. وإن أي حل لا يُنصف هذا الشعب، ولا يضمن وجوده وهويته وحقوقه، ليس إلا إعادة إنتاج للظلم، مهما تلونت الكلمات أو تغيرت الأسماء.

ولهذا فإن تشكيل مرجعية سياسية كردية موحدة، ووفد تفاوضي كردي قومي جامع، باتا أمرا لا يمكن تأجيله أو تجاهله. إنه الصوت الذي يجب أن يسمعه العالم، وتسمعه دمشق، وتفهمه القوى الدولية الفاعلة، بأن الكرد في سوريا ليسوا مجرد “مكون محلي”، بل شعب يطالب بحقوقه في وطن مشترك، عبر حل سياسي عادل، في دولة فيدرالية ديمقراطية لا مركزية، تكرس المساواة والتعددية والشراكة الحقيقية.

فإما أن يسمع هذا الصوت بوضوح… أو يظل الصمت عبئا جديدا يضاف إلى قرن من التهميش.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…