عبدالجابر حبيب
“إذا لم يكن للثقافة دورٌ في مقاومة القهر، فهي ترفٌ لا ضرورة له.” إدوارد سعيد
إبداع في إنتاجِ المعاناة
في وقتٍ تزداد فيه الضغوطاتُ المعيشية على سكّان شمال شرق سورية، وروج آفا خصوصاً، وتتحوّل أبسطُ مقوّمات الحياة إلى ترفٍ يصعب بلوغه، يتجلّى سؤالٌ مُلحّ: هل نحن أمام مشهدٍ من الفوضى غير المقصودة، أم أنّ هناك منظومةً متكاملةً لإنتاج الأزمات؟ وهل الأزمةُ ناتجةٌ فقط عن ظروفٍ موضوعية، أم أنّها أيضاً وليدةُ قراراتٍ تعسّفية، وفسادٍ يتسرّب إلى المفاصلِ الإدارية؟
المازوت… شعلةُ الأزمةِ المستعرة
رفعُ سعرِ المازوت هو قرارٌ اقتصاديٌّ في غير محلّه، بل هو شرارةٌ فتحت أبوابَ أزمةٍ اجتماعيةٍ ومعيشيةٍ جديدة. الشعب، الذي يئنّ تحت وطأة الفقر، وجد نفسَه أمام موجةٍ جديدةٍ من غلاء الأسعار، تضرب كلَّ شيء: من رغيفِ الخبز، إلى أجرةِ النقل، إلى أسعارِ المياه، وحتى الاشتراكاتِ الشهريةِ للمولّدات. أمّا الضرائبُ المفروضةُ على التجّار، فهي الأخرى لم تُسهم إلا في زيادةِ الاختناق، إذ تحوَّل التجّارُ بدورهم إلى ناقلين للعبء، يحمّلون المواطنَ أعباءَ القراراتِ المرتجلة، بحجّةِ تعويضِ ما يُقتطع منهم. والأنكى من ذلك أنّ بعضَ الموظفين الذين يتهرّبون من المسؤولية، يحاولون وضعَ كلّ ما يعانيه الشعب على عاتقِ التاجر، الذي بدوره يُبرّر رفعَ السعر بالإجراءاتِ التعسّفية من قبل الإدارة.
معبرٌ أم ساحةُ ابتزاز؟
من المضحكِ المبكي أن يعود الحديثُ عن الحواجزِ والمعابر التي تفصل بين مناطقِ الإدارةِ الذاتيةِ والداخلِ السوري، وكأنّ الزمن لم يتغيّر. معبرٌ كان يُعرف بـ”التشليح”، عاد اليوم بحلّةٍ أكثرَ سطوة. رسومٌ جمركيةٌ مُقنّعةٌ تحت مسمّيات “المخالفات”، تُفرض على الشاحناتِ القادمةِ من الداخل السوري باتجاه روج آفا، رغم الإلغاءِ الرسميّ لها سابقاً. تقريرٌ نشره الصحفي إيفان حسيب على صفحته، تحدّث فيه عمّا يتمّ في معبر “التشليح” سابقاً، حيث تُدفع رسومٌ جمركية بقيمة 400 دولار على الشاحنة الكبيرة، و200 على الصغيرة، دون تفسيرٍ حقيقيّ، سوى اجتهاداتِ عناصرِ المعبر الذين لا تعجزهم الحيلةُ لاختراع “المخالفات”، حتى ولو كانت بحجّة “دولابٍ يمشي على الأرض”.
العطشُ المُقنَّن
في صيفٍ قائظ، بات الماءُ سلعةً تُسعَّر كأنّها من الكماليّات. بلديةُ الشعبِ في قامشلو أصدرت قراراً بتحديدِ أسعارِ صهاريجِ المياه، محاولةً للحدّ من فوضى التسعير، وكأنّ البلدية تُقدّم خدمةً جليلةً للشعب. وفي الحقيقة، ما قرارُ البلدية إلا ترسيخٌ لأزمةٍ خانقةٍ ستدوم طوال فصلِ الصيف، هذا إنْ لم يبقَ القرارُ حبراً على ورق. فهل يُعقل أن يمتثل أصحابُ الصهاريج لتسعيرةٍ رسمية، وهم لم يلتزموا بها يومَ كان سعرُ المازوت أرخص؟ الفسادُ يخرق القرارَ من داخله، و”فسادُ موظّفٍ واحد” يجعل البلديةَ والمياهَ عرضةً للتلاعب، والمواطنُ لا حول له ولا قوّة، هو من يدفع الثمنَ من قوتِ يومه وجرعةِ مائه.
إدارةُ الأزماتِ تعملُ بجدٍّ؟
من الشتاء إلى الصيف، ومن المحروقاتِ إلى المياه، تتنقّل الأزماتُ في روج آفا بلا توقّف. وكأنّ هناك من يعملُ على تدويرِ الأزمات، لا معالجتها، وعلى تعقيدِ المشكلات، لا حلّها. تتبدّل العناوين، ويَبقى الثابتُ هو التهاوي الإداري، والفسادُ العميق، وغيابُ الشفافية.
صمتُ المثقّفِ والإعلاميِّ في غيابِ الضمير
أين المثقّفُ الذي لطالما أشعل المنابرَ بالقصائدِ الوطنية؟ لماذا يغيبُ صوتُه الآن أمام انهيارِ البنيةِ الاجتماعية؟ أليس المثقّفُ ضميرَ المجتمع، والمراقبَ الذي يرفضُ الصمتَ أمام الجوعِ والعطشِ والذلّ؟ أم أنّه صار شريكاً في التجميل، واتّكأ على خطابٍ سلطويٍّ يُعفيه من مسؤوليته تجاه الناس؟
فقط للتذكير يحضرني هنا قول لإدوارد سعيد
الإعلامُ الصامت: أين الإعلاميُّ الأعمى، والأخرس؟
ما حالُ الإعلام؟ هناك من يُطارد أخباراً سياسيةً لا تكاد تُذكَر، فإن سرق أحدُهم قنينةَ ماءٍ جعلوا منها قضيّة، لأنّها في منطقةٍ أخرى، واتّهموا المسؤولين هناك بالفساد، بينما يُغضّ الطرفَ عن معاناةِ شعبٍ بأكمله في منطقته. بعضُ الإعلاميّين لا يكتفون بالتجاهل، بل يُنمّقون الخبرَ السيّئَ ليرضى المسؤول. أمّا المعاناةُ اليومية، فلا مكانَ لها في العناوينِ العريضة، وكأنّ العطشَ لا يعنيهم، والجوعَ ليس خبراً مهمّاً.
سوقٌ متفلّتٌ وأسعارٌ بلا عقل
في القامشلي، باتت الأسعارُ تُحاكي العواصمَ الفارهة، دون أن تُقابلها رواتبُ تكفي أسبوعاً واحداً. الضرائبُ التي تُفرض على المحلّاتِ التجارية تدفع أصحابَها إلى رفع الأسعار بشكلٍ جنونيّ. أمّا المولّدات، فلكلّ صاحبٍ مولّدةٍ مزاجُه الخاص، والتسعيرةُ الشهريةُ للإمبيرات تُحدَّد حسب مزاجِ السوق، لا حاجةِ الناس.
أسئلةٌ في وجهِ الصمت
هل الآبارُ جفّت فجأة؟
أليس تكرارُ تبريرِ انقطاعِ الماء بانقطاعِ الكهرباء ضرباً من التهكّمِ على وعي الناس؟
لماذا لا يوجد مسؤولٌ يشعر بالمعاناة كما يشعر بها المواطنُ العادي؟
لماذا يُحاكَم المواطنُ على كلّ تقصير، بينما يُكافَأ المسؤولُ على الفشل؟ هذا إنْ لم تتم محاسبةُ المواطن لأنّه ينتقد السلبي! وبنقدٍ بنّاءٍ هدفُه وضعُ اليدِ على الجرح، لا في سبيل الضغطِ عليه لينزف حتى الموت.
مجتمعٌ منهكٌ إلى حدِّ الرمقِ الأخير
ما يجري في روج آفا فاقَ التحمُّل، والنداءُ موجَّهٌ إلى كلّ الشرفاء: الشعبُ لم يطلبْ رفاهيّة، بل أبسطَ حقوقِه الإنسانيّة: الدفءَ، الماءَ، الكهرباءَ، ورقابةً تُنصفه. الشعبُ يعيش تحت طاحونةِ تدويرِ المعاناةِ بنُسَخٍ جديدة. هل هناك من يفتح قلبَه للشعب، ينصتُ لصوتِ الشارع؟ فالأزماتُ القادمة لن تكون فقط في الماءِ والمازوت… بل في الإيمانِ بأيِّ مشروعٍ يحمل اسم “لا للحياة”، ولا يحمل في داخله إلا القهرَ والتهميش.