الموروثات الاجتماعية والسلوك السياسي

كفاح محمود

  تلعب العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة دورًا محوريًا في تشكيل السلوك السياسي في المجتمعات العربية، إذ تشكّل هذه العادات جزءًا من البنية الثقافية العميقة التي تحدد أنماط التفكير والتفاعل الاجتماعي والسياسي للأفراد، وكما أشار عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، فإن “الهابيتوس” أو “العادة المتجذرة” تساهم في إعادة إنتاج نفس الأنماط السلوكية ضمن الحقول الاجتماعية المختلفة، ومنها الحقل السياسي، حيث يُكتسب السلوك السياسي من خلال التنشئة الاجتماعية التي تبدأ في الأسرة وتمتد إلى الجماعة والقبيلة والدولة.

  في هذا السياق، تمثل العادات الاجتماعية في المجتمعات العربية، لا سيما في دول مثل العراق وسوريا وتونس وليبيا، مرجعية أساسية في بناء الهوية والانتماء، فقد شهدت هذه الدول تحولات سياسية جذرية خلال العقدين الأخيرين، أظهرت مدى تغلغل البنى الاجتماعية التقليدية في المجال السياسي، فعلى سبيل المثال، ما زالت الثقافة القبلية والعشائرية تشكل إطارًا مرجعيًا للفرد في مواقفه السياسية، حيث يُقدَّم الانتماء للعشيرة أو الطائفة على الانتماء للدولة أو الحزب، وتُبنى التحالفات السياسية أحيانًا على أساس قرابة الدم أكثر من القناعات الأيديولوجية.

  من الجانب الإيجابي، تساهم هذه العادات في تعزيز قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، وهي عناصر ضرورية لبناء شبكات اجتماعية قادرة على التحرك الجماعي، خاصة في فترات الأزمات والتحولات، فقد بينت النظريات الاجتماعية، مثل نظرية رأس المال الاجتماعي لـ “روبرت بوتنام”، أن المجتمعات التي تتمتع بروابط اجتماعية قوية تكون أكثر قدرة على المشاركة المدنية والسياسية، وهذا ما لوحظ خلال بدايات الحراك التونسي أو الانتفاضة السورية، حيث لعبت الروابط العائلية والمجتمعية دورًا في تحفيز المشاركة السياسية والمقاومة الشعبية.

  إلا أن هذه العادات لا تخلو من جوانب سلبية، خصوصًا عندما تتحول إلى أدوات تعزز الانغلاق والتمييز، فالنزعة نحو الولاءات الضيقة للعشيرة أو الطائفة أو الجهة الجغرافية تعيق تشكّل دولة المواطنة، إذ تضعف من فكرة الانتماء العام للمجتمع السياسي الموحد، وقد تجلت هذه الإشكالية في التجربة العراقية بعد 2003، حيث عرقلت المحاصصة الطائفية والعشائرية بناء نظام سياسي متماسك، بل ساهمت في تفكيك الدولة إلى كيانات متنازعة، وينطبق الأمر ذاته على ليبيا، حيث أدى انهيار النظام المركزي إلى بروز كيانات محلية قبلية ومناطقية أعاقت توحيد السلطة.

  كذلك، فإن بعض القيم الاجتماعية التقليدية، تفرز ثقافة سياسية تقوم على الطاعة أكثر من المساءلة، وهذا ما يجعل من الصعب ترسيخ تقاليد ديمقراطية تقوم على النقد والمحاسبة، فالعديد من المواطنين في العالم العربي، بسبب التنشئة الاجتماعية، لا يرون في الحاكم موظفًا عامًا يمكن تقييم أدائه، بل شخصية أبوية ذات شرعية تقليدية، مما ينعكس على ضعف المشاركة السياسية الفعالة وتدني ثقة الأفراد بالمؤسسات الرسمية.

  مع ذلك، بدأت تظهر ملامح تحول اجتماعي في بعض المجتمعات، وخصوصًا بين فئات الشباب، فقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة، وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، في تفكيك بعض البنى الاجتماعية التقليدية وإعادة تشكيل قيم جديدة ترتكز على المشاركة والمساواة والحرية الفردية، وتُظهر الدراسات الحديثة أن الأجيال الجديدة في دول مثل تونس والمغرب ولبنان باتت أكثر انخراطًا في النقاشات السياسية وأكثر استعدادًا لتجاوز الانقسامات التقليدية على أساس العائلة أو الطائفة.

  إن فهم السلوك السياسي في العالم العربي يتطلب إدراكًا عميقًا لتأثير العوامل الاجتماعية والثقافية، وليس فقط السياسية والاقتصادية، فكما تؤكد المقاربة الثقافية في علم الاجتماع السياسي، لا يمكن تحليل الحراك السياسي دون الأخذ بعين الاعتبار “الثقافة السياسية” التي تُشكّل الوعي الجمعي وتوجهات الأفراد، ومن هنا، فإن أي مشروع إصلاحي أو تحولي حقيقي في العالم العربي ينبغي أن يتعامل مع العادات الاجتماعية لا كعقبة فقط، بل كمورد قابل لإعادة التوظيف بما يخدم بناء الدولة الحديثة، فبدلاً من السعي لقطع العلاقة مع الماضي، يمكن العمل على تجديد هذه العادات وتطويرها لتصبح داعمًا لمفاهيم المواطنة والعدالة والشفافية، وذلك من خلال إصلاح منظومات التعليم والإعلام والتنشئة السياسية، بما يعزز الانتماء الوطني ويضعف الولاءات الضيقة، بهذه الطريقة، يمكن تحويل العادات الاجتماعية من قيد يكبّل التقدم السياسي إلى رافعة تُسهم في إنجاحه.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…