دلدار بدرخان
ما إن سكتت المدافع وطويت رايات القتال حتى ارتفعت أصوات تقول “نحن من ضحى، ونحن من يستحق أن يحكم ” في اعتقادهم أن الدولة تركة أو كعكة توزع على الحاضرين في حفلة انتصار، متناسين أن الدولة عقد اجتماعي عام يقوم على الحقوق و المواطنة، وتُبنى أركانه على العدالة والمساواة، والمشاركة في ادارة الدولة.
فإن فتحنا باب “الاستحقاق بالدم والتضحيات” فكل مدينة، وكل حي، وكل قصبة، وكل شارع وبيت في سوريا ستصرخ “نحن قدمنا وضحينا ” وسننزلق إلى وادي المحاصصة على الغنائم حيث لا وطن بل حصص وأرقام.
نعم التضحيات كانت عظيمة ويجب أن تُجل، ولكن لا أن تستعمل كتصريح للسلطة، فحين تصبح التضحيات والشهادة وسيلة لحكم الناس تفرّغ معناها من قدسيتها، لأن الوفاء الحقيقي للتضحيات و دماء الشهداء ليس بمنابر السلطة، بل بإقامة ميزان العدل والمساواة، وضمان الكرامة والحرية والحقوق لكل مواطن ليكون لهذه التضحيات والدماء معنى وقدسية ولا تذهب سدى.
فالثورة السورية قامت لتمنح صوتاً لمن لم يكن يُسمع صوته، وجاءت لتحرر الإنسان المقموع وتقيم العدل، وترد الحقوق وتنصف المظلوم، وتنهي الفساد وتعيد الكرامات، وتمنح الشعب السوري فرصة ليحيا من جديد، لا أن تكون وسيلة للحكم والتسلط.
والتاريخ ما نطق إلا ليعلّم فحين سقطت الملكية في فرنسا تسابق الثوار على الحكم ثم انقلب بعضهم على بعض، وولد من رحم الثورة استبداد أشد قسوة فجاء روبسبير، ومن ثم جاء نابليون حتى ضاعت الثورة تحت بسطار الجيوش،
وفي إيران تحالف القوميون واليساريون ورجال الدين لإسقاط الشاه، ثم أُقصي الجميع لصالح الحرس الثوري، وسميت الديكتاتورية “حماية الثورة”.
لكن في جنوب إفريقيا وقف نيلسون مانديلا شامخاً بعد سنين من القهر الطويل في المعتقلات ليقول جملته الشهيرة “دعونا نبني وطننا معاً “ولم يقل “دعوني أحتكر البلاد باسم التضحيات” فكانت النتيجة دولة يسكنها الأمل لا الثأر.
فالتضحيات يا اخوة لا تصنع الحق في الحكم، لكنها تصنع الحق في أن يُسمع صوتك، وفي أن تُحترم، وفي أن يفتح لك باب الوطن ويكون لك دولة تُحترم ، فمن خان الأمانة باسم الثورة فقد قتلها مرتين.