“التكويع “… ابتعاد عن المبادئ نحو المصلحة وتآكل الثقة ..…!

اكرم حسين 
في عالم السياسة، كما في الحياة اليومية عندما نقود آلية ونسير في الشوارع والطرقات ،  ويصادفنا منعطف اونسعى إلى العودة  لاي سبب ، هناك من يلتزم المسار بهدوء  ، وهناك من “يكوّع” فجأة عند أول منعطف  دون سابق إنذار. فالتكويع مصطلح شعبي مشتق من سلوك السائق الذي ينحرف بشكل مفاجئ دون إعطاء إشارة، لكنه في السياسة يكتسب دلالات أعمق وأخطر. فهو انعطاف مفاجئ في المواقف والتوجهات السياسية، غالباً دون مقدمات فكرية أو مبررات منطقية، ودون مصارحة مع الجمهور أو مراجعة حقيقية للمواقف السابقة. 
اذاً التكويع ليس تغيّراً مشروعاً ولا مراجعة نقدية بل هروب من الالتزامات ،  وسلوك ينم عن انتهازية سياسية، يتذرع  بالظروف لتبرير التقلب ، ويستند إلى مصلحة آنية على حساب القيم والمبادئ والمصداقية .
لا تكمن الخطورة في “التكويع السياسي”  فقط ، بل في انعدام الحس بالمسؤولية العامة، حيث يتعامل السياسي مع التبدل في موقعه أو موقفه وكأنه أمر طبيعي لا يحتاج إلى تبرير، في مجتمع يغيب عنه مفهوم المحاسبة وتضعف فيه بنية التنظيم السياسي. لكن في السياق السوري، أصبحت هذه الظاهرة أكثر وضوحاً، حيث تحوّل التكويع إلى سلوك شائع لدى كثير من القوى السياسية والفصائل والشخصيات، بدءاً من الانتقال من صفوف المعارضة إلى حضن السلطة، مروراً بالتحالف مع القوى الإقليمية والدولية المتناقضة، وانتهاءً بتبديل الخطاب الوطني أو القومي بحسب الرياح السائدة، دون تقديم اية مراجعة فكرية أو سياسية جادة. والأمثلة كثيرة: فمن رفعوا شعارات الثورة والحرية  أصبحوا أدوات في يد الدول، ومن تحدثوا عن الحقوق ،  ساوموا عليها عند أول فرصة، ومن قدّموا أنفسهم كمدافعين عن الشعب السوري اصبح همّهم الوحيد مقعد هنا أو منصب هناك.
في حين  لاتفسر ظاهرة التكويع  فقط بتغير الوقائع أو تبدل التحالفات الإقليمية، بل تعكس أزمة أعمق: غياب الالتزام الأخلاقي، وضعف الانتماء الفكري، وهشاشة البنى التنظيمية للأحزاب والتيارات، وتغليب المصالح الشخصية على أي معيار وطني أو مبدئي. إنها تعبّر عن سيادة “الذرائعية” ، حيث تستخدم  “الغاية تبرر الوسيلة”  لتبرير أي تقلب سياسي، دون تقدير تأثير ذلك على الوعي العام أو على الثقة بين الناس والعمل السياسي. 
ان دوافع “التكويع” متعددة، أبرزها الطموح الفردي غير المنضبط الذي يدفع البعض لتغيير مواقعهم من أجل القرب من دوائر النفوذ، أو من أجل البقاء في الواجهة. كما أن الضغوط الإقليمية والدولية تلعب دوراً مهماً ، حيث تسعى بعض الجهات إلى هندسة خارطة المواقف وفق مصالحها، فتمارس تأثيراً مباشراً على القرار السياسي للأشخاص  والأطراف المحلية، لا سيما حينما  تكون هذه الأطراف فاقدة للاستقلالية أو خاضعة للتمويل المشروط. كما أن غياب وجود قاعدة جماهيرية حقيقية تدفع بعض الشخصيات إلى الارتهان في احضان قوى خارجية  بدلاً من  العودة إلى الناس والاحتكام إلى إرادتهم.
وهنا يمكننا طرح السؤال التالي : متى يكون التغير السياسي مشروعاً، ومتى يُعدّ “تكويعا” ً؟ الجواب يكمن في المنهج لا في النتيجة. لأن التغير يكون مقبولاً إذا كان نابعاً من مراجعة نقدية، وصريحاً أمام الرأي العام، ومبنياً على أسس عقلانية. أما “التكويع” فهو ما يحدث فجأة، دون تمهيد أو تفسير، وغالباً ما يكون مرتبطاً بمنفعة خاصة أو صفقة ضيقة ، ومن هنا تظهر خطورته، لأنه يقوّض مفهوم السياسة كمجال عام ومسؤول، ويحولها إلى نشاط فردي تحكمه الغرائز والمصالح لا المبادئ والقيم.
 في السياسة يؤدي ” التكويع “إلى تآكل الثقة، ليس فقط بالسياسيين بل بالعمل السياسي برمته ، وحين يفقد الناس ثقتهم في الفاعلين السياسيين، ينفتح الباب أمام الشعبوية والتطرف، ويُترك المجال للفوضى بدل البناء. كما أن تكرار هذا السلوك يؤدي إلى تسفيه الفكرة الحزبية، فتتحول الأحزاب إلى منصات لتبديل المواقع لا أدوات للتغيير الحقيقي. والمجتمع بدوره يتحمل مسؤولية حين يُطبّع مع هذا السلوك أو يصمت عليه، أو حين يُصفّق “للتكويع” طالما أنه يخدم انتماءه الضيق أو نزعاته الآنية. 
مواجهة “التكويع” السياسي تبدأ من إحياء قيمة المراجعة الصادقة بدل التملص، وترسيخ مبدأ الشفافية في القرار السياسي، وإعادة الاعتبار إلى فكرة البرنامج السياسي مقابل الشخصنة، وإقامة آليات رقابة حزبية ومجتمعية جادة. فالمصداقية لا تُبنى بالخطب، بل بالثبات على الموقف، أو الاعتراف بالخطأ عند تغييره. والسياسة لا تُختزل في الذكاء والتكتيك، بل تقوم على الشجاعة الأخلاقية والوضوح والمسؤولية.
وبالتالي فإن “التكويع” انزلاق في القيم، وتعبير عن حالة فصام بين ما يُقال وما يُفعل. إنه كناية عن تآكل السياسة كفنٍّ للشأن العام، وتحولها إلى مسرح فردي تسوده الشعارات المؤقتة والمواقف المعلّبة ، ومجتمع لا يرفض “التكويع” السياسي، هو مجتمع مرشح لأن يُكوَّع بأكمله.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…

شادي حاجي في عالم يتزايد فيه الاضطراب، وتتصاعد فيه موجات النزوح القسري نتيجة الحروب والاضطهاد، تظلّ المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) طوق النجاة الأخير لملايين البشر الباحثين عن الأمان. فمنظمة نشأت بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت اليوم إحدى أهم المؤسسات الإنسانية المعنية بحماية المهدَّدين في حياتهم وحقوقهم. كيف تعالج المفوضية طلبات اللجوء؟ ورغم أن الدول هي التي تمنح…