خوشناف سليمان
بعد عام من سقوط نظام بشار الاسد وفراره المذل في ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة انتقالية هشة ومعقدة، تشبه رقعة شطرنج ضخمة تتداخل فيها تحركات اللاعبين المحليين والاقليميين والدوليين. يقود هذه المرحلة شخصيات مثيرة للجدل، معظمها خرج من تنظيمات كانت مصنفة ارهابية، لتصبح اليوم قطعاً تحتل مربعات حساسة داخل مؤسسات الدولة الناشئة. المشهد يعكس مأزق اعادة بناء الدولة بعد عقود من الاستبداد والحرب، إذ لم يكن انهيار النظام مفاجئاً، بل نتج عن استنزاف طويل المدى استهدف اضعاف المركز تدريجياً دون اسقاط الرقعة بالكامل، تفادياً للانزلاق الى فوضى شاملة. سوريا اليوم تبدو دولة قائمة شكلياً، لكنها فقدت السيطرة على كثير من مربعاتها، عالقة بين انهيار جزئي ومحاولات متعثرة لاعادة ترتيب القطع دون رؤية واضحة.
في هذا السياق، برز احمد الشرع كعنصر محوري في ادارة المرحلة الانتقالية، مدعوماً من قوى دولية رأت فيه فاعلاً محلياً قادراً على ضبط الايقاعين الامني والسياسي، كضرورة لتجنب الانفلات الشامل. واشنطن ولندن، الى جانب حلفائهم العرب واسرائيل، سعوا للحد من النفوذ الايراني وتحجيم التنظيمات المتطرفة، من دون الانخراط في مواجهة مباشرة او اعادة تشكيل الرقعة بالكامل، ما جعل الشرع خياراً وظيفياً مؤقتاً اكثر منه مشروعاً سياسياً طويل الامد.
اقليمياً، اعادت القوى الكبرى تموضعها على الرقعة السورية. تركيا ركزت على كبح التحركات الكردية مع الحفاظ على توازن دقيق بين حساباتها الداخلية وعلاقاتها بالغرب. السعودية حاولت اعادة ادخال نفسها في اللعبة عبر بوابة دور عربي يوازن النفوذ الايراني ويعيد ترتيب اوراقها الاقليمية. ايران، من جهتها، فقدت قطعة مركزية بخروج حليفها من دمشق، ما حد من قدرتها على المناورة. روسيا، المنهكة في اوكرانيا، اكتفت بالحفاظ على موطئ قدم عسكري على الساحل، بوصفه ورقة ضغط استراتيجية تضمن لها حضورا مؤثراً مستقبلاً.
داخلياً، تشكلت رقعة سياسية جديدة تتسم بتعدد اللاعبين وضعف المركز، تشمل تكتل الدروز بقيادة الشيخ الهجري، وقوات سوريا الديمقراطية، وتشكيلات اسلامية محلية، لكل منها اجندتها وتحركاتها الخاصة. رغم محدودية قدرة كل لاعب عند تحركه منفرداً، تمنح سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المربعات الحيوية — من النفط والمياه الى المعابر — افضلية واضحة وتمكنها من فرض شروطها في اي معادلة سياسية مستقبلية. في المقابل، يبدو المركز التقليدي للدولة فقد ملكه وقدرته على فرض قواعد اللعبة، بينما يساهم تمدد التيارات المتشددة داخل بعض القوى الصاعدة في تعميق الانقسامات الطائفية والاثنية واعادة رسم خطوط التماس السياسية، ما يشبه تقسيم الرقعة الى مربعات متنازعة تقوض اي فرصة لبناء عقد اجتماعي جامع.
وتشير المعطيات الى ان نشوء كيانات شبه مستقلة هو السيناريو الاكثر احتمالا في سوريا. الساحل العلوي يتجه نحو بنية سياسية وامنية شبه متماسكة قد تفضي الى حكم ذاتي موسع، فيما يمتلك الجنوب الدرزي ما يكفي من التماسك الاجتماعي وشبكات الحماية ليكرس وضعاً شبه مستقّل. الشمال والشمال الشرقي، حيث الادارة الكردية الواسعة، يشهد تسارعاً نحو نموذج لامركزي او كيان مستقل بحكم الواقع، في تشظ تدريجي للدولة السورية بصيغ غير معلنة، ما يؤكد استمرار اعادة ترتيب الرقعة بين انهيار جزئي ومحاولات متعثرة لضبط التوازن.
كل هذه التحولات تجري في ظل غياب توافق وطني شامل، وتضارب مصالح اقليمية ودولية، ما يجعل سوريا عرضة لانزلاقات خطيرة قد تسرع نهاية المباراة اذا اختل اي توازن قائم. فرار بشار لم يكن “كش ملك” ينهي الصراع، بل بداية مباراة اكثر تعقيداً وغموضاً، تتراوح بين احتمالات اعادة تنظيم الرقعة وبناء دولة جديدة، او تثبيت تقسيم واقعي غير معلن.
وسط هذا المشهد المعقد، يبقى الشعب السوري القطعة الاكثر تضحية، عالقا على رقعة لا تحكمها قواعد واضحة، في دولة شبه منهارة لم تستعد تماسكها بعد، وعلى ساحة مفتوحة لصراعات النفوذ والتفاوض الاقليمي والدولي. واي تسوية قابلة للحياة لن تتحقق دون عملية اعادة بناء حقيقية من الداخل، تعيد تعريف العقد الاجتماعي قبل الرهان على حلول مفروضة من الخارج.