سليمان سليمان
مرت الحركة السياسية الكوردية عبر عقود طويلة بمحطات متشابكة، ارتكبت خلالها أخطاء واضحة، وتحول بعضها إلى خطايا سياسية دفع الشعب ثمنها. وأكثر ما أضر بهذه التجربة هو الانحراف التدريجي عن المبادئ الأولى التي تأسست عليها الحركة، إلى درجة بات فيها السؤال المتكرر في الشارع الكوردي مشروعاً: لماذا تتكاثر الأحزاب؟ ولماذا لا يولد من هذا التعدد بديل حقيقي قادر على إحداث تغيير؟
إن تشخيص هذه الإشكالية؛لا يتعلق بالمفاضلة بين القديم والجديد او هي دعوة لرفض القديم ولاتحمسا غير مشروط للجديد ، بل بفهم العلاقة المختلة التي حكمت تطور الحقل السياسي برمته. فالماضي، مهما امتلأ بالأخطاء، يظل مصدر الخبرة والتاريخ والنضال؛ والجديد، مهما حمل من وعود، لا يمكن أن يتحول إلى مشروع سياسي منظم من دون بيئة تسمح له بالنمو. لكن واقع الحركة الكوردية يكشف عن بنية سياسية أقفلت أبواب التطور على نفسها وعلى غيرها، فحولت التعددية الشكلية إلى حالة ترهل لا تنتج تنافساً صحياً ولا انتقالاً فاعلاً للقيادة.
لسنوات طويلة حافظت الأطر التقليدية على بنائها المغلق، وعلى شبكات نفوذها التي تشكلت عبر توازنات داخلية وتحالفات خارجية. ومع الزمن، تكرّس نمط قيادي يعلي الولاء الشخصي على قيمة المؤسسة، ويضع الحفاظ على الموقع فوق تطوير البرامج والرؤى. هذه البنية لم تفشل فقط في تحديث نفسها؛ بل أقامت حول المشروع السياسي جداراً جعل أي محاولة للتجديد تقرأ كمساس بمصالح ثابتة، لا كجزء من عملية تطور طبيعية.
في المقابل، لم تتوفر للقوى الناشئة شروط النضج السياسي. فقد نشأت في فضاء محكوم بآليات نفوذ متصلبة، وبمؤسسات حزبية تمتلك أدوات المال والتنظيم والخطاب. ورغم محاولاتها استيعاب الطاقات الشبابية والمهمّشة، وجدت نفسها في مواجهة منظومة ترى في الجديد منافساً غير مرغوب به، لا إضافة مطلوبة. وهكذا بدا الجديد متعثراً، لا لأنه عاجز بطبيعته، بل لأن الطريق أمامه لم يكن مهيأ منذ البداية.
وفي ظل هذا الانغلاق البنيوي، تشكلت ذهنية اجتماعية تتردد في تبني ثقافة المعارضة المنظمة. هذه الذهنية لم تنشأ من فراغ، بل نتاج تفاعل طويل بين مجتمع يبحث عن الاستقرار وبين أحزاب عززت الولاء على حساب النقد. ومع الوقت، تحول هذا التفاعل إلى ثقافة عامة تتوجس من البدائل، وتتعامل مع الاختلاف السياسي بمنطق الاصطفاف لا بمنطق التقييم. وهنا لا يُحمل المجتمع أكثر مما يحتمل، لكنه أيضاً لا يعفى من مسؤوليته في عدم المطالبة بثقافة سياسية قادرة على ضبط الأداء الحزبي وتطويره.
نحن اليوم أمام مأزق سياسي عميق؛ ليس لأننا نفتقر إلى الطاقات أو الأفكار، بل لأن الساحة باتت محكومة بعدة عقد متشابكة:
– عقدة القيادة التي ترفض التغيير لدى القديم،
– عقدة الشرعية التي لم تُمنح للجديد،
– عقدة البديل الذي لا يولد لأن الملعب السياسي نفسه غير صالح للولادة،
– عقدة التدخلات الخارجية التي تتحكم بالقرار الكوردي في روج آفاي كوردستان، وتعيد صياغة الحركة وفق مصالح الاخرين، لا وفق مصلحة روج افاي كوردستان ،
– عقدة غياب الشخصية الكاريزمية التي تملك شرعية شعبية واسعة وقادرة على جمع الفرقاء حول مشروع قومي واضح،
– وعقدة التشتت التنظيمي التي تجعل كل مبادرة جديدة تلقائياً مهددة بالتفكك قبل أن تبدأ.
هذه العقد مجتمعة تشكّل جداراً يمنع تطور القديم ويشل إمكانات الجديد في آن واحد
ونتيجة ذلك، دخل المشهد الكوردي في حلقة مفرغة: أحزاب تقليدية ترفض التغيير، وقوى ناشئة لم تُمنح فرصة للتكوين، وجمهور سياسي محاصر بين الإحباط والولاء، من دون فضاء يسمح بتشكل بديل حقيقي. وقد أدّى هذا الوضع إلى تآكل الثقة في العمل السياسي وإلى انحسار قدرة الفاعلين على تقديم رؤى عملية تتناسب مع التحولات الإقليمية والدولية.
سبعة عقود او اكثرمن العمل السياسي كان يمكن أن تنتج أحزاباً تمتلك رؤية حقيقية وبرامج ناضجة، لكن ما حدث هو العكس:
القديم فشل في تحويل خبرته إلى إصلاح، والجديد ظلّ معلقاً بين الاتهام والإحباط. ومع كل دورة جديدة من الخلافات والانقسامات، يزداد تآكل الثقة في العمل السياسي ذاته، وتكبر الهوّة بين الشعب والقوى السياسية، لدرجة أنّ كل خطوة للأمام تُعيدنا إلى نقطة البداية.
اذن الخروج من هذا المأزق لا يمكن أن يتحقق بترقيعات شكلية ولا بعمليات تجميل تنظيمي، بل يحتاج إلى تحول ذهني يعيد تعريف معنى القيادة السياسية، ودور المعارضة، ووظيفة العمل الحزبي. إصلاح البنية ليس ترفاً سياسياً، بل شرطٌ لأي إمكانية لبناء مشروع وطني قادر على الاستمرار. فالتجارب السياسية الناجحة لم تُبنَ على الجمود، بل على استعداد مستمر لإعادة تقييم الذات.
إن الخبراء في علم الاجتماع السياسي يؤكدون أن أي مجتمع لا يتطور سياسياً ما لم يغيّر بنيته الذهنية قبل بنيته التنظيمية. وهذه قاعدة تنطبق علينا تماماً: لا يمكن لعمل سياسي قديم أن يستمر بالأدوات نفسها ويتوقع نتائج مختلفة، ولا يمكن للجديد أن ينجح إذا حوصر في بيئة لا تسمح بالنمو.
وفي المحصلة، فإن أي حركة سياسية ترفض التطور محكوم عليها أن يتآكل تدريجياً، أو أن يستبدل بسياق جديد تفرضه طبيعة التحولات. هذه ليست قاعدة نظرية فحسب، بل حقيقة تكررها كل التجارب السياسية الحديثة.
ويبقى مستقبل كوردستان رهن بقدرة الحركة السياسية على تجاوز هذا الإرث التنظيمي المثقل، وتبني مقاربة تجعل مصلحة الشعب فوق مصالح البنى الحزبية، وتضع الحرية والعدالة السياسية معياراً أعلى من كل الاعتبارات الأخرى. فحين يصبح الهدف هو بناء مستقبل يتجاوز الحسابات الضيقة، يصبح الطريق إلى دولة مستقلة أقرب مما يبدو في لحظات التعقيد الراهنة…؟
وهكذا ونتيجة كل ماذكر نستطيع القول : لا القديم تطور ولا الجديد اتيح له ان يتطور او يأتي بجديد؟