عاصم أمين
كتب الإعلامي والدكتور فيصل القاسم في منشور موجهاً للمكونات والمجتمعات السورية على الفيسبوك بتاريخ ١٢/١٢/٢٠٢٥م بعنوان:
(صيروا مثل الآخرين أولاً… وبعدها مبارك عليكم الفيدرالية).
(( النظام الفيدرالي من أرقى وأقوى الأنظمة السياسية في العالم، وهو مطبَّق بنجاح في دول مثل الولايات المتحدة، وسويسرا، وألمانيا، وبلجيكا، وأستراليا، وكندا. لكن قبل أن نحلم بتطبيقه في بلداننا، علينا أن نصبح مثل شعوب هذه الدول أولاً. تلك الشعوب حسمت أمرها مع أمراض الدين والطائفة والعرق والعشيرة، وبنت مجتمعات مدنية حديثة، فكانت الفيدرالية عندهم نظاماً للحكم الرشيد لا أداة تفكيك.
أما عندنا، فأي حديث عن حكم ذاتي أو لامركزية يتحول فوراً إلى سلطة طائفية أو عائلية أو عرقية أو دينية أو عسكرية، أو إلى نظام ميليشيات وعصابات وقطاع طرق. وعندها سيكتشف الناس، متأخرين، أنهم انتقلوا من ديكتاتور واحد إلى ديكتاتوريات صغيرة أشد قذارة ووحشية، وسيترحمون على أسوأ الطغاة عندما يرون الخراب الجديد.
لهذا، فإن أي انتقال نحو اللامركزية يجب أن يكون بطيئاً، حذراً، ومتدرجاً، لا قفزة عمياء في المجهول. تطبيق اللامركزية الكاملة دفعة واحدة في مجتمعات مأزومة هو وصفة جاهزة لكارثة شاملة. وليس عبثاً أن قال المبعوث الأمريكي إلى سوريا إن اللامركزية لم تنجح ولن تنجح في أي مكان في الشرق الأوسط، فكيف بالفيدرالية التي يتاجر بها بعض السماسرة لخدمة مشاريع تقسيم المنطقة تحت شعارات براقة؟
الخلاصة الواضحة: اللامركزية في ظروفنا الحالية ليست حلاً، بل وقود لحرب أهلية، وهي تخدم الأعداء أكثر مما تخدم الشعوب)) انتهى المنشور.
يتخذ الاعلامي فيصل القاسم فيه موقفاً سلبيا متعمداً من النظام الفيدرالي واللامركزي ، مرتكزاً على فكرة مركزية غير علمية مفادها أنّ المجتمعات وبشكل خاص المجتمعات والمكونات السورية، قبل التفكير بأي نظام سياسي متقدم، مطالبة بأن ” تصير مثل الآخرين أولاً “. غير أنّ هذا الموقف أوالطرح، حين يُعاد قراءته بعيداً عن الخطاب المتشحن، يكشف عن اشتراطٍ مسبق يقوم على منطق عكسي: على المجتمع أن يبلغ درجة من النضج السياسي قبل اعتماد الفيدرالية، رغم أن الفيدرالية نفسها في التجارب الإنسانية كانت أداة لإنتاج ذلك النضج، وليس نتيجة له. فالتاريخ السياسي للدول التي يستشهد بها الدكتور فيصل القاسم لا يدعم طرحه، بل يناقضه: الولايات المتحدة الامريكية تبنت الفيدرالية كنتيجة ضرورية لصراعات دموية بين الولايات، وسويسرا كانت مسرحاً لتوترات دينية ولغوية، وبلجيكا وألمانيا وكندا لم تُؤسس الفيدرالية على قاعدة انسجام سابق كامل النضوج سياسياً ومدنياً، بل على تفاهم وحوار حول كيفية تنظيم هذا الاختلاف والحد من الصراع والتمزق.
وبذلك، يتحول الشرط الذي يطرحه الدكتور فيصل القاسم إلى قصور معرفي وحجة معاقة متعمدة، لا إلى رؤية إصلاحية. فهو يطالب بالاكتمال قبل البناء وهي مطالبة مستحيلة ولا تنسجم مع قوانين التطور والتاريخ، لأنها تفترض أن المجتمع يستطيع تفكيك أزماته الداخلية بمعزل عن الأدارة او الاطر السياسية التي تنظم الحياة العامة. لا يمكن لمجتمع محكوم بمركزية صلبة ومغلقة منذ اكثر من نصف قرن أن يتحول، بقرار أخلاقي أو ثقافي أو ايماني، إلى مجتمع مدني حديث من دون تعديل آليات السلطة. هذا الشرط شبيه بتكليف مريض بالشفاء قبل السماح له بالعلاج.
ويمضي الدكتور فيصل القاسم في تصوير أي شكل من لامركزية محتملة في المنطقة -يقصد في سوريا- على انها مدخلاً للطائفية والميليشيات والتقسيمات العائلية والعرقية. لكن هذا التصوير يستند إلى رؤية و قراءة ثقافوية قاصرة،تعتبر أن المجتمعات البسرية”مهيأة للفوضى”، وكأنّ الفوضى جوهر او قانون ثابت فيها، لا نتيجة لغياب الدولة الحديثة. ما تجاهله الدكتور قاسم، عن قصد أو بدونه، هو أن الانهيارات التي تشهدها سوريا اليوم ليست نتيجة اللامركزية، بل نتيجة المركزية نفسها. فأكثر من خمسون سنة من احتكار القرار السياسي والاقتصادي وإغلاق مجال انفتاح المكونات والشعوب السورية على بعضها حوّلت الروابط الضيقة(الطائفة والعشيرة والجماعات العرقية والقومية…)إلى آليات بديلة للثقة، لأن الدولة لم تكن موجودة كمؤسسات محايدة. وما يصفه القاسم اليوم بأنه ” سلطة ميليشيات “هو في جوهره انهيار لفكرة المركزية، لا نتاج الفيدرالية او الامركزية التي لم تُختبر أصلاً. ومن المثير للمفارقة أن ما يخشاه من “ديكتاتوريات صغيرة” هو بالفعل ما أنتجه النظام المركزي حين انهار، لا ما قد تنتجه الفيدرالية.
ويحاول الدكتور فيصل أن يضفي مسحة عقلانية على موقفه عبر الدعوة إلى “انتقال بطيء وحذر”، لكنه لا يوضح شيئاً حول طبيعة وادوات ووسائل هذا الانتقال، ولا عن زمنه، ولا عند أي نقطة يصبح الانتقال ممكناً. إن الحذر، حين لا يكون جزءاً من خطة، يتحول إلى منهج تسويفي كغطاء لتأجيلٍ دائم . فالتجارب التي شهدت انتقالات سياسية ناجحة لم تعتمد أبداً ” التأجيل التسويفي المفتوح”، بل اتخذت قرارات سياسية واضحة في لحظات تاريخية حاسمة. التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية مثال على أن تبني “نظام فيدرالي صارم”-نعم صارم ولايزال- يمكن أن يعيد بناء مجتمع مفكك خلال سنوات قليلة. أما القول بأن المجتمعات المتصارعة والمفككة- اصلاً بسبب النظام المركزي- تحتاج إلى “عقود أخرى من الانتظار” قبل التفكير بالفيدرالية، فهو في الواقع دفاعاً ضمنياً عن استمرار النموذج المركزي القديم .
كما يستشهد القاسم برأي المبعوث الأمريكي -القادم من بلد لم تجد سوى الفيدرالية لإنهاء نزاعاتها وحروبها الدموية- الى سوريا (توم براك) بأن اللامركزية “لن تنجح في الشرق الأوسط”، وهو استشهاد يفتقر إلى الأساس العلمي. فالتجارب الإقليمية نفسها تكشف عكس ذلك: المغرب حققت تقدماً في الادارة اللامركزية المحلية، وكردستان العراق أصبحت نموذجاً مستقراً نسبياً مقارنة ببقية البلاد. لا يمكن تحويل رأي موظف دبلوماسي إلى قاعدة تاريخية. فنجاح اللامركزية أو فشلها مرتبط بمدى وجود مؤسسات دستورية واضحة، لا بـطبيعة المنطقة ومجتمعاتها.
وحين يصل القاسم إلى القول بأن اللامركزية “وقود لحرب أهلية”، يكون قد قلب العلاقة السببية رأساً على عقب. فالحروب الأهلية تنشأ حين تنغلق أُفق السياسة ويُحتكر القرار، وحين تغيب قنوات التمثيل والرقابة ، وحين يكون الدستور معاقاً غير قابل للتعديل ،وحين تكون المواطنة قائمة على الولاء لا على الانتماء. سوريا لم تنزلق إلى مأزقها الحالي بسبب مقترحات لإنشاء أقاليم أو توزيع سلطات، بل بسبب نظام سياسي مركزي منع ولا يزال يمنع أي إصلاح أو تمثيل حقيقي. وإذا كانت “المركزية السياسية السابقة” لم تستطع منع الانهيار، فمن غير المنطقي اعتبارها الملاذ الأخير لحماية الدولة.
إن الخطاب الذي يقدّمه الدكتور فيصل القاسم ليس دفاعاً عن “الدولة” بقدر ما يدافع عن نموذج حكم سيقوم على مركزية مطلقة حيث يكون المواطنة فيها إمتيازاً وليس حق دستورياً .الدولة الحديثة ليست جهازاً واحداً يتخذ القرارات من الأعلى؛ هي شبكة معقدة من مستويات السلطة المتوازنة، التي توفر للمجتمع طرقاً متعددة للمشاركة. وتجارب العالم تُظهر أن الدول الأكثر تماسكاً ليست تلك التي تُحكم من مركز واحد، بل تلك التي تعترف بتعددها وتحوّله إلى جزء من بنيتها الدستورية.
لا يمكن للفيدرالية اللامركزية أن تكون حلاً جذرياً ، أو بوصفها نموذجاً مكتفياً بذاته. لكنها، خلافاً لما يلمّح إليه الدكتور، ليست مشروع تفتيت أو تمزيق. هي خيار وعقد اجتماعي دستوري يمكن أن يشكّل نقطة انطلاق لإعادة تصور العلاقة بين الدولة ومواطنيها. وإذا كانت عقود من الحكم الاسدي المركزي قد انتهت إلى تفكك سوريا سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، فمن الطبيعي التفكير في نماذج أخرى، بدلاً من الإصرار على ترديد خطاب يحمّل المجتمع مسؤولية الأزمة ليبرّئ بنية السلطة من نتائجها.