من لاعب صغير إلى كابوس تركيا -الكورد لن يُهزموا أبداً

أزاد خليل *

في الأسابيع الأخيرة، تكثّفت الإشارات السياسية والدبلوماسية التي تؤكد أن الدائرة الداخلية في أنقرة، بالتنسيق مع بعض القوى الحاكمة في دمشق الجديدة ومنظومتها الأمنية، تحاول بكل قوة إنهاء ملف «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) قبل أن تنتهي الولاية الرئاسية الثانية لدونالد ترامب في يناير 2029. السبب واضح ومعلن: الجميع في أنقرة يتذكّر جيداً كيف كان الديمقراطيون، في عهدي باراك أوباما وجو بايدن، الشريك الأكثر سلاسة ودعماً لـ«قسد» والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا. ومع استطلاعات الرأي التي تُظهر تقارباً شديداً بين المرشحين في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، يبدو أن نافذة الفرصة التركية تضيق بسرعة.

رسالة أوجلان من إيمرالي

أبرز تلك الإشارات جاءت من جزيرة إيمرالي نفسها. فقد زارت لجنة برلمانية تركية الزعيم الكردي عبد الله أوجلان في سجنه، وسألته مباشرة عن موقفه من «قسد». وفق البيان الرسمي الذي صدر لاحقاً عن اللجنة، أكد أوجلان «ضرورة امتثال قوات سوريا الديمقراطية لاتفاق 10 مارس/آذار» (الذي أُبرم عام 1999 بينه وبين الدولة التركية قبل اعتقاله)، وأضاف أنه «بحاجة إلى إصدار بيان جديد بشأن سوريا». وعندما سُئل عن إمكانية تحويل «قسد» إلى قوة دفاع محلية، أجاب بصراحة: «لن تكون قوة دفاع، بل قوات لحفظ النظام العام، أي مثل الشرطة».

هذه التصريحات ليست مجرد كلام سجين معزول، بل رسالة سياسية مدروسة بعناية. أنقرة تريد أن تُظهر للعالم، وللأميركيين خاصة، أن حتى أوجلان نفسه يطالب «قسد» بالتخلي عن طابعها العسكري وتحويلها إلى قوة شرطة محلية تحت سيادة الدولة السورية المركزية. في الداخل التركي، انقسم الرأي بين مؤيد لـ«ورقة التفاهم» الجديدة بين حزب العمال الكردستاني (الذي يعتبره البعض منحلاً عملياً) وبين رافض يرى فيها تنازلاً خطيراً عن المكتسبات الكردية.

دمشق لا تتحرك إلا بضوء أخضر تركي.. والأخيرة تنتظر الضوء الأميركي

في دمشق، يدرك الجميع أن أي خطوة عسكرية أو حتى سياسية كبرى في شمال شرقي سوريا لن تحدث إلا بموافقة تركية صريحة. وحتى الآن، لا أنقرة ولا سلطة الرئيس المؤقت أحمد الشرع مستعدان للمغامرة بدون ضوء أخضر أميركي واضح. إدارة ترامب، التي تتعامل مع الملف السوري ببراغماتية اقتصادية بحتة، لا تبدو متحمسة لفتح جبهة جديدة مع الكورد في وقت تُركز فيه على ثلاث أولويات فقط:

  1. مواجهة تعاظم القوة الصينية عسكرياً واقتصادياً.
  2. عقد صفقة كبرى مع الروس لإنهاء الحرب في أوكرانيا (التي كلفت أوروبا مليارات الدولارات وأعباء لا تطاق).
  3. الحفاظ على أمن إسرائيل من حزب الله وإيران والميليشيات العراقية الموالية لـ«ولاية الفقيه».

في هذا السياق، يصبح الملف الكوردي  السوري مجرد ورقة تفاوضية يمكن التضحية بها مقابل مكاسب أكبر.

الصراع التركي – الإسرائيلي داخل الأراضي السورية

لكن هناك لاعب آخر يُراقب بقلق شديد: إسرائيل. 

فتركيا تسعى جاهدة لربط مستقبل سوريا بمشروعها الإقليمي الكبير. في أنقرة، يُنظر إلى انهيار نظام بشار الأسد ووصول قوى إسلامية-قومية إلى السلطة في دمشق على أنه «انتصار تاريخي» و«زلزال جيوستراتيجي» يُنهي المشروع الإيراني في المنطقة نهائياً، بعد تدمير قوة حزب الله وسحق حركة حماس التي كان قادتها يؤمون الصلاة خلف علي خامنئي في طهران.

إسرائيل، من جانبها، تخشى أن يتحول هذا «الانتصار» التركي إلى كابوس استراتيجي طويل الأمد، خصوصاً إذا ما نجحت أنقرة في دمج شمال شرقي سوريا في نفوذها بشكل كامل، مما سيضع حدوداً جديدة لـ«الإخوان المسلمين» والنفوذ التركي على تخوم الجولان وجنوب لبنان.

الكورد من لاعب صغير إلى رقم صعب..في المعادلة السياسية في منطقة الشرق الأوسط إنه  تحول تاريخي

في خضم هذه المعادلة المعقدة، حدث تحول تاريخي لا يمكن تجاهله: الكورد السوريون تحولوا خلال عقد ونصف من لاعب صغير هش إلى رقم صعب حقيقي في المعادلة الإقليمية. لم يعد الحديث عن «قسد» مجرد شأن داخلي سوري، بل أصبح ملفاً يُناقش في البيت الأبيض والكرملين وتل أبيب وطهران وأنقرة في الوقت نفسه.

هذا التحول ليس وليد صدفة، بل نتيجة تضحيات هائلة قدمت الاف الشهداء وعشرات الألاف من الجرحى في حربها مع الإرهاب وإدارة سياسية وعسكرية ناضجة استطاعت أن تبني كياناً شبه دولة في ثلث مساحة سوريا، يدير نفسه بنفسه، ويدير  النفط، يُنتج القمح، يحمي حدوده، ويُقاتل تنظيم داعش نيابة عن العالم كله.

الكورد  يمدون يدهم.. لكن بشروطهم

موقف الكورد  في سوريا اليوم واضح وصريح وثابت: لن نقبل بأقل من حقوقنا القومية والثقافية والإدارية، ولن نتنازل عن دماء عشرات آلاف الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن وجودنا وكرامتنا. هذه الحقوق يجب أن تُثبت في دستور سوريا الجديدة، دستور ديمقراطي تعددي لامركزي، وليس في بيانات إعلامية أو وعود شفوية.

لغة القوة والتهديد وإعلان الحرب لن تفيد أحداً. على العكس، قد تؤدي إلى نتائج كارثية لا يُحمد عقباها، كما أثبتت التجربة السورية على مدى خمس عشرة سنة. نحن نؤمن بالديمقراطية وبلغة الحوار، ويدنا ممدودة دائماً للسلام الحقيقي، لكن السلاح الذي نحمله ليس عدواناً، بل دفاعاً مشروعاً عن حقنا في الحياة، تماماً كما تفعل كل أمة تواجه الإبادة أو التهميش في هذا العالم الذي لا يعترف بالضعفاء.

ختاماً نحتاج دبلوماسية ذكية لا عض أصابع

الكورد اليوم بحاجة إلى دبلوماسية وحنكة سياسية عالية، وقبل ذلك إلى رؤية استراتيجية طويلة الأمد. لا يكفي رفض الابتزاز، بل يجب أن نكون جزءاً فاعلاً من صناعة القرار الإقليمي. ذلك يتطلب تفاهمات واتفاقيات مكتوبة ومضمونة دولياً مع اللاعبين الكبار: واشنطن، موسكو،بكين ، باريس، برلين، وحتى الرياض والقاهرة.

القرن الحادي والعشرون لن يرحم الشعوب التي تنتظر الخلاص من الخارج. الكورد، بكل ما قدموه من تضحيات وما بنوه من إنجازات، أصبحوا اليوم قادرين على أن يكونوا ليس مجرد طرف في الطاولة، بل صانعي جزء من قواعد اللعبة نفسها.

إذا أُغلق ملف «قسد» بالقوة العسكرية قبل 2029، فسيكون ذلك انتصاراً تكتيكياً قصير الأمد لأنقرة، لكنه هزيمة استراتيجية كارثية للاستقرار المنطقة كلها. أما إذا تُرك الملف مفتوحاً إلى ما بعد عودة الديمقراطيين المحتملة، فقد يصبح الكورد السوريون أول مشروع قومي كوردي ناجح مع تجربة إقليم كوردستان  في القرن الحادي والعشرين، لا يقل شأناً عن المشاريع العربية والفارسية والتركية واليهودية في المنطقة.

الكرة الآن في ملعب الدبلوماسية الكوردية.. في نيل حقوقهم والوقت يمضي بسرعة.

* كاتب وباحث سياسي

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

  خاشع رشيد كنا ستة أصدقاء خرجنا من جامعة تشرين في اللاذقية، تحملنا الطرقات نحو دمشق كما يحمل القلب خطوة إلى المجهول. كانت المشاعر مختلطة؛ فلم نكن يَكِيتيين، بل قوميين ووطنيين، نبحث عن مكان لنا وسط صمتٍ خانق. في تلك السنوات لم يكن الخوف قد استوطن أرواحنا، أو لعلنا كنا أصغر من أن ندرك ثقله. خرجنا فجراً إلى الكاراج، فركبنا…

  صبحي دقوري   لم تعد الهوية الكوردية، في زمن العولمة والذكاء الاصطناعي، مجرد رواية تُروى أو انتماء يُعلَن. لقد تحوّلَت إلى ساحة صراع بين قوى لا تُرى، وإلى مختبر تُعاد فيه صياغة المعنى والوجود، وإلى مرآة تنعكس عليها توترات العالم كله. فالهوية لم تعُد تلك البنية التي تُسافر عبر الأجيال محافظةً على صلابتها الأولى؛ إنها، اليوم، كائنٌ حيّ،…

  نظام مير محمدي *   احتضن البرلمان الأوروبي في بروكسل، الأربعاء 10 ديسمبر 2025، مؤتمرين دوليين بالتزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، بحضور زعيمة المعارضة الإيرانية السيدة مريم رجوي، ولفيف من النواب الأوروبيين والمستشارين والشخصيات السياسية البارزة. وقد هيمنت على أجواء النقاشات التطورات الدراماتيكية الأخيرة في الشرق الأوسط، حيث أجمع المتحدثون على أن “تجربة الحرب الأخيرة” (الـ 12 يوماً)…

مسلم شيخ حسن – كوباني منذ اللحظة التي استولى فيها حافظ الأسد على السلطة في سوريا كان واضحاً ان البلاد تدخل مرحلةً مظلمة ترسم حدودها بالقوة والبطش. فصعود هذه الزمرة لم يكن نتاج عملية سياسية طبيعية بوصفه نتيجةً مباشرة لسلسلة من الانقلابات العسكرية التي اتسمت بالعنف والدموية. وفي 16 تشرين الثاني 1970، نفذ حافظ الأسد انقلاباً أطاح فيه برئاسة…