زينه عبدي
في خضم المرحلة الانتقالية التي تعيشها سوريا بعد أكثر من عقد من الأزمة العميقة، يظهر الإعلام كأحد أهم الأدوات قدرة على التأثير وفي بلورة وعي الناس بما يعيد ترتيب العلاقة بين المجتمع السوري والسلطة الانتقالية الحالية.
لا يًعتبَر الإعلام أداة لنقل الخبر فقط، بل، ولا سيما في السياق السوري الجديد، هو المسهم الأول في تشكيل الأطر السردية بما يطرح أساليب تضع الجمهور في حالة فهم معمقة لكل ما يجري حوله من أحداث، والدخول في حوارات ونقاشات تفيد الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، وبالتالي تحوله لفاعل أساسي في إعادة بناء السياسية والعلاقة بين المكونات السورية. فالخطاب الإعلامي بات متبايناً بين وسائل الإعلام المختلفة في سوريا في ظل المرحلة الانتقالية بين مؤيدة ومعارضة لطرف على حساب الآخر.
هنا ينبغي طرح السؤال التالي: كيف يمكن أن تعكس المصطلحات المستخدمة في الإعلام ودقتها، في ظل الحساسية التي نمر بها مرحلياً، مسؤولية الخطاب الإعلامي، ولعب دوره الحقيقي في بناء الثقة وتجسير الهوة والحد من الاستقطاب؟!
جدلية الاضطراب بين جناحين
في ظل المرحلة الانتقالية السورية، ينبغي على الإعلام السوري أن يكون مسؤولاً أكثر من ذي قبل بسبب الحساسية التي أُفرِزت نتيجة الطائفية بين المكونات ومن بينهم الكورد والدروز والعلوية على وجه الخصوص. فالإعلام لا يقل أهمية عن الأدوات الأخرى من اجتماعية وثقافية وسياسية، حيث محتواه لا بد من تمايزه بالموضوعية والدقة (مصطلحاتياً) في نقل الحقيقة كما هي، ما يفتح فضاءات للحوار والنقاش لخلق رؤية متوازنة وتحليل دقيق يناسب متطلبات المرحلة الحالية وتصورات الجمهور عامة عن المستقبل وبناء واقع سوري جديد قائم على الاستقرار الداخلي والعدالة والمواطنة.
اليوم، مطلوب من الإعلام تحمل مسؤوليته الأخلاقية قبل المهنية، من خلال التوازن في الخطاب دون تحيز، وبمنأى عن الكراهية ضد مكون أو طرف مهما كان مؤيداً أو معارضاً، واستخدام المصطلحات المهنية التي تقرب وجهات النظر المختلفة بين الجميع وبعناية تامة. على سبيل المثال، ما حصل خلال الأشهر الأخيرة بين وسائل الإعلام الكوردية والإعلام التابع للسلطة الانتقالية من شد وجذب، ومستمر إلى الآن، بعد توقيع اتفاقية العاشر من آذار بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، ما أثار جدلاً واسعاً بين المكونين الكوردي والعربي، فقد شرع الإعلام التابع للسلطة باتهام قسد اتهامات باطلة والتهجم على الكورد دون إيلاء أي اهتمام لتأثير الكلمة المحتمل في إعادة بلورة الصورة الذهنية كما السابقة لدى الجمهور الذي لا يزال في مرحلة الشفاء من الألم السابق، والكلمة الإعلامية هي بلا شك جسر للتقريب لا للتقسيم وتعميق الشرخ والتشرذم، ما ولد لدى الإعلام الكوردي بالعموم رد فعل عكسي يقوم على الدفاع عن وجوده وهويته بصورة تلقائية، الأمر الذي أدى لخلق فضاءات مليئة بخطاب الكراهية الذي بات تجريمه واجبا قانونيا ودستورياً.
الأثر النفسي
في هذا السياق، المراعاة الحقيقية للجانب النفسي والتأثير المحتمل للكلمات التي يستخدمها الإعلام، من الركائز الرئيسية التي يتوجب على الإعلام الأخذ بها وبعناية، ناهيك بالأثر الاجتماعي الذي يفتت بصورة صارخة مقومات التعايش بما فيها الاحترام وقبول الآخر. الإعلام التابع للسلطة الحالية بات يعتمد خطاباً قائماً على الاستخدام المتعمد لبعض المصطلحات التي تعيد إنتاج شرعية السلطة الانتقالية سياسياً، والإشارة للمكونات الأخرى بأنهم جماعات خارجة عن القانون أو خارجة عن مفهوم المواطنة والوطنية التي يتبنونها، ما يضع هذه المرحلة الحساسة في إطار المخاطر والمخاوف والتهديدات الداخلية التي من المؤكد ستؤدي بالجميع نحو حرب أهلية لا خلاص منها.
وفي ذات الإطار، تصف بعض المؤسسات الإعلامية التابعة لدمشق الطرح الكوردي حول مستقبل سوريا الجديد بأنه مشروع يدعو للتقسيم بمجرد ذكر الإدارة الذاتية لمصطلح اللامركزية بمختلف وثائقها والمعلنة بشكل رسمي وبعيداً عن أية سرية، ووصفها لقوات سوريا الديمقراطية بالميليشيات بغية إلغاء شرعيتها. في المقابل، تسرد بعض الوسائل التابعة للإدارة الذاتية خطابا لإثبات شرعية الإدارة الذاتية الديمقراطية وقسد ودورهما الحقيقي في ترسيخ الحماية ومكافحة الإرهاب وإبراز صورة الأمن والأمان والاستقرار في مناطق روجآفايي كوردستان (شمال شرق سوريا)، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها مقارنة بالمناطق السورية الأخرى، لكن بعضها تستخدم خطاباً بمنأى عن المعايير المهنية التي تجعل الجمهور في حالة صدمة من استخدام تلك اللغة المثالية عبر إظهارها الواقع بصورة لاواقعية وأقرب للتجميلية منها للحقيقة. بمعنى الاستخدام الصح للمصطلح الصح سيوفر علينا مراحل من الهجوم الإعلامي، بل ويجنبنا رحلة الشقاء والتشويه بأشواط جمة في حال اعتُمِد خطاب مسؤول مهني دون أن يستنزف الجميع.
إلى صناعة الوعي
في السياق السوري الراهن، أرى أن الدور الحقيقي للإعلام هو صناعة الوعي بما يخدم وضمن إطار المسؤولية في الدفاع عن الحقيقة والتأثير بإيجابية على مسار الحوار والتفاوض على كافة المستويات وخصوصاً سياسياً وعسكريا واجتماعيا. هذا الإعلام المسؤول مهمته هي تعزيز الحماية في المجتمع السوري من خطاب التضليل والكراهية والتزييف العميق، ما يعزز الثقة بينه وبين جمهوره في هذه المرحلة الأشد حساسية.
هنا، لا بد من التوقف عند الإعلام الرسمي باعتباره الواجهة الأساسية للسلطة الانتقالية وجميع الأنظار متجهة نحوه، من الحاجة الملحة والضرورية التحلي والالتزام بخطاب واعي يجمع لا يفرق ويشمل لا يقصي. استخدام لغة متوازنة ولا أقول حيادية لأن الحياد غير ممكن في الإعلام والصحافة، بغية احترام الآخر المختلف. التحريض أو الانحياز في الخطاب الإعلامي سيؤدي لا محال لإضعاف الحوار وفرص التقريب وتوسيع الهوة ما أمكن.
الوظيفة الإعلامية ليست حكراً على الصحفيين والصحفيات فقط، بل تمتد لتشمل صناع المحتوى الإعلامي بكل نماذجه لبناء إعلام مسؤول يسهم في ترسيخ مفاهيم التعدد والتنوع والحوار، والاستثمار بإطار حقيقي للبناء والشراكة داخل الدولة السورية القادمة يسمع فيه الجميع صوت الجميع، ما يضفي على الإعلام السوري ويكسبه صفة الشرعية والدفع به نحو التغيير الإيجابي، لا وسيلة للتأجيج والنزاع.
وأخيراً، صناعة الإعلام السوري في ظل التحولات المرافقة للمرحلة الانتقالية وتعقيداتها مسؤولية جسيمة لغوياً، بما يضمن الدقة في نقل الخبر بصورة حقيقية لبناء وعي نقدي أكثر اتزاناً وتوازناً، يعزز الحوار والشراكة بين الجميع ويمنحهم الجرأة والقدرة على اتخاذ رأي واعي، ما يعزز الدفع نحو عملية بناء وطنية جامعة في هذه المرحلة المضطربة. اليوم نحن بحاجة تشكيل حالة إعلامية حقيقية وفقاً للمعايير المهنية والأخلاقية وبعيدة عن خطابات التحريض والكراهية، إلا أنه تبقى هناك إشكالية مركزية تستدعي طرح السؤال التالي:
كيف للإعلام السوري تجسيد حالة من التوازن بين صناعة التأثير وقدرته على تحمل مسؤوليته اللغوية؟!