الكورد أمام منعطف تاريخي جديد

بنكين محمد

 

ما يجري اليوم في إقليم كوردستان العراق ليس تفصيلاً عابراً، ولا اضطراباً إدارياً يمكن أن يُنسب إلى الأخطاء اليومية. إنه أكبر من ذلك، أعمق وأخطر. فالمشهد الذي يتشكّل أمامنا يشبه خيوط شبكة تُحاك بإتقان في غرف مظلمة، هدفها ليس مجرد إرباك الداخل، بل ضرب الهوية الكوردية في جوهرها، وتشويه إرادة شعب أثبت مراراً أنه أقوى من العواصف وأكثر ثباتاً من الجبال التي يقف عليها.

فافتعال المشاكل ليس صدفة، وخلق أجواء التوتر ليس نتيجة سوء إدارة، بل مخطّط قذر يُراد منه إشعال شرارة حرب أهلية تُستغل لاحقاً لتمتد إلى بقية أجزاء كوردستان الأربعة، حتى يُقدَّم الكوردي للعالم باعتباره «الهمجي الذي لا يستطيع حكم نفسه»، تمهيداً لسلبه ما تبقى له من حقوق، وإغلاق الباب بوجه أي حلم قومي قد يتجدّد.

هذه هي اللعبة التي تقودها أنقرة وطهران ومعهما بغداد ودمشق؛ لعبة تقوم على فلسفة ثابتة:
إذا أردتَ أنْ تُسكت شعباً، اجعل أبناءه يتصارعون، وادفن صوته داخل صدى الفوضى.

لكن ما لم تحسبه هذه العواصم هو ظهور موقف سياسي أربكها كلها…
فردّ الرئيس مسعود بارزاني الحاسم على تصريح دولت بهتشلي لم يكن مجرد جواب، بل كان صفعة سياسية كاملة المعنى. صفعة هزّت طاولة اللعبة، وأفسدت على الجميع حساباتهم، وأغلقت الباب في وجه كل من كان ينتظر انهيار البيت الكوردي من الداخل. لقد ماتت محاولة إشعال الفتنة في مهدها، وابتلع صانعوها غبار فشلهم قبل أن يتصاعد الدخان.

وإذا كان البعض يقرأ ما يجري اليوم كأزمة عابرة، فأنا أراه علامة على أن شيئاً كبيراً يقترب.
ليست هذه ارتباكات مصطنعة فقط… هذه ارتجافات تسبق ولادة مرحلة جديدة.
مرحلة يدرك الأعداء أنها إن وُلدت، لن يبقى لهيمنتهم مكان في الجغرافيا السياسية القادمة.

الكورد اليوم ليسوا كما كانوا قبل عشر سنوات، ولا كما يريدهم خصومهم أن يكونوا.
جيل جديد كامل شبّ على فكرة الدولة، لا على فكرة الجبل فقط.
جيل يعرف هويته، ويمتلك أدواته، ويفهم العالم بلغة السياسة والتحالفات، لا لغة الهتافات وحدها.
وهذا التحوّل تحديداً هو ما يخيف من يحيطون بكوردستان، لأنهم يرون ملامح كيان قادم رغم إرادتهم، نَفَس دولة تُرسم معالمها، وشعباً يتهيّأ لكتابة فصل جديد في تاريخه.

اليوم، كل أزمة تُفتعل في الإقليم هي في جوهرها اعتراف غير معلن بأن الكورد على عتبة منعطف تاريخي.
فلا أحد يتآمر على الضعيف…
المؤامرات الكبرى لا تُحاك إلا ضد من يملك مستقبلاً يزحف بثبات.

الزمن تغيّر… والكورد أيضاً.
والأيام القادمة لن تكون مجرد استمرار لما سبق، بل بداية لتوازن جديد في المنطقة، حيث لم يعد الكورد الحلقة الأضعف، بل رقماً صعباً في معادلة الشرق الأوسط.

وإن شئنا أم أبينا…
ما قبل هذه الأحداث ليس كما بعدها.
فالتاريخ حين يقرر أن يُفتح، لا يغلقه أحد.

وبين ارتجافات المرحلة الحالية… ورصانة الردود السياسية… ثمة حقيقة واحدة تلمع:
الكورد يتهيّأون لما حُرموا منه قرناً كاملاً.
والمستقبل، هذه المرة، لم يعد بعيداً كما يظنّ خصومهم… بل أقرب مما يتوقّع الجميع.

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…