أحمد سماعيل اسماعيل
فقط، في حياتنا وبلادنا، يمكن يجتمع داخل الرأس الواحدة ابن لادن وماركس واسبينوزا وابن تيمية، في حالة انسجام تام، يعلو صوت الواحد منهم بكبسة رغبة من صاحب الرأس، تماماً كما تجد ما يشبه ذلك على مائدة طعام واحدة لأمثال أصحاب هذا الرأس كالبطيخ والفاصولياء والحمص والبيض والحليب جنباً إلى جنب، دون تفكير بما ستخلفه هذه المأكولات من غثيان وتلبك معوي وانتفاخ، كما نجد ذلك أيضاً في الإعلام والخطابات السياسية. مما يجعل المشهد بالنسبة للمراقب وكأنه يشاهد كابوساً، لا واقعاً.
والأمثلة على تجليات هذه الظاهرة من الكثرة إلى درجة أنها لا تحصى، ومنها ظاهرة خلط المفاهيم وما تتعرض له من قص ولصق عشوائي، وأحياناً بمكر.
غير أن ذلك لا يستقيم واقعياً وعلمياً، إذ أن لكل نسق مفاهيمه وأدواته الخاصة، في السياسة كما في الأدب، تماماً كما هو الحال في مناهج البحوث العلمية، والعقائد والإيديولوجيات، والمذاهب الفنية وغيرها. والخلط بينها في معالجة موضوعٍ ما، كما في طعامنا، أو الاستخدام العشوائي والانتقائي لها، يؤدي إلى إلغاء جدية البحث وتقويض مصداقية الباحث. فلا يصح، مثلاً، استخدام أدوات ومفاهيم الفلسفة الأرسطية داخل بحث يستند إلى التفكيكية، ولا مزج المفاهيم الدينية في معالجة قضايا علمية، ولا توظيف مصطلحات حداثية أو ما بعد حداثية في بحث يقوم به باحث لا يعترف أصلًا بمقدماتها من حريات وديمقراطية وتشاركية.
يحدث هذا الالتباس كثيراً في عالمنا المعاصر، الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، عالم تمرّ فيه العربات التي يجرّها الحصان جنباً إلى جنب مع أحدث السيارات، ويسكن فيه العرّاف والطبيب والكاتب الحيّ ذاته. ولعل ما نشاهده اليوم على شاشات الفضائيات العربية بشأن بلدنا سوريا مثال واضح على هذه المفارقة، إذ نرى إعلاميي السلطة الدينية الجديدة يكرّرون ليل نهار عبارة: حق المواطنة مكفول للجميع! ويأتي هذا الردّ في مواجهة مطالب المكونات الأخرى التي تدعو إلى الاعتراف بحقوق جماعية تعبر عن خصوصياتها ومظلومياتها، في محاولة لاختزال حقوق المكوّنات في حقوق الأفراد، مما يؤدي إلى تفريغ المسألة من سياقاتها وواقعيتها.
وبغض النظر عن التفصيل، فإن استخدامهم لمفهوم المواطنة ينطوي على مغالطة معرفية وانحراف عن جوهر عقيدتهم نفسها، عن جهل أو تجاهل، لسبب بسيط يتجسد في عدم مشروعية أي حديث عن مواطنة حقيقية في وطن تحكمه سلطة ديكتاتورية أو دينية.
لأن المواطنة ببساطة شديدة ليست بطاقة هوية ولا مجرد انتماء جغرافي، بل هي منظومة حقوق وواجبات تقوم على الحرية والمساواة والمشاركة في القرار. وهذا مستحيل في الأنظمة الشمولية التي يتحوّل فيها الفرد إلى تابع مسلوب الإرادة، تُنتزع منه القدرة على التعبير والمحاسبة والاختيار، فتصبح المواطنة في هذه الحالة صفة قانونية بلا مضمون.
أما في الدول الدينية، فتذوب المواطنة في الانتماء المذهبي، ويُنسف مبدأ المساواة أمام القانون، لأن الحقوق فيها تُمنح وفق العقيدة لا وفق الإنسان، وكهبة ومنحة، لا كحق.
لهذا لا يمكن التفكير في المواطنة بمعزل عن حاضنتها الطبيعية: الديمقراطية.
لأن الديمقراطية، والتي تُعد في منظومتهم المعرفية، بدعة وسلعة غربية مستوردة؛ الإطار الوحيد الذي يجعل المواطن فاعلا لا مُداراً، شريكاً لا تابعاً، وصاحب حقوق لا متلقياً لامتيازات تمليها السلطة. وبناء عليه، فحيثما غابت الديمقراطية؛ حضرت المواطنة الناقصة، وبقي الناس رعايا لا مواطنين.
ولعل من المفيد أن نورد قول فولتير هنا، كحقيقة تاريخية لا تقليعة مستوردة:
“لا وطن حر بلا مواطنين أحرار”
والتي ندحض حجة بعض من يدعو إلى تأجيل حرية المواطنين و حقوق مكونات البلد حتى يتم تحرير البلد من إرث الماضي الثقيل والعمل على بناء الوطن المدمر.
فبناء الوطن ليس هرماً أو جسراً، يبنى بالسواعد، بل قوانين ناظمة ودستور عادل وحريات مصانة وتشارك وأمان وصون كرامة، لا يتحقق إلا بالديمقراطية: والديمقراطية ليست سوى ممارسة الحريات: حرية المواطن أولاً.