ضوء نوافذ بيوت المسيحيين المهاجرين

المهندس باسل قس نصر الله

وقعت عيناي بالأمس على تلك الجملة التي قرأتها يوماً: “لقد زادت أبواب منازل المسيحيين المغلقة بسبب الهجرة” … جملة تختصر وجع سنوات طويلة، وتختصر حكاية هجرة لا تشبه أيّ هجرة.

منذ أن بدأت العاصفة تعصف ببلادنا، بدأ المسيحيون يرحلون واحداً تلو الآخر … تتساقط الأسماء من حولي، كما تتساقط أوراق الخريف على أرصفة خالية.

بيوتهم التي كانت تضجّ بالضحكات، أُغلقت أبوابها … باباً بعد باب … حتى أصبحتُ أمشي في شوارع أعرف حجارتها أكثر مما أعرف وجوه الناس اليوم، فأجدني أتلفّت لأقول: “سأزور فلاناً”… ثم أتذكّر أنه هاجر …

أو “سأشرب القهوة عند قريبي فلان” وأيضاً أتذكّر أنه هاجر … فأعود إلى بيتي مثقلاً بوحدة لا تُحتمل.

كل بابٍ مغلقٍ كان كافياً ليجرح قلبي …

كل نافذة مُعتِمة كانت تذكّرني بأن ضوءاً خامداً خلفها كان يوماً يحمِل أرواحاً أعرفها … وأحبّها.

كم شربتُ فناجين القهوة من يدِ أم جورج على تلك الشرفة؟

كم درسنا عند “طوني” في ليالي الشتاء الباردة؟

وكم ضحكنا في تلك الأمسيات حين كانت زوجة صديقي تقدّم طبق التبولة، وكأنها تقدّم لنا فرحاً نعرف أنه لن يدوم؟

حتى صبايانا وابتساماتهنّ، فكنّا نَمُرّ بهنّ ونحلم، ونرسم مستقبلاً كنا نظنّه ينتظرنا جميعاً.

كبرنا … تزوّجنا … ربّينا أولادنا … ولكن المستقبل الذي رسمناه معاً تخلّى عن نصفنا وأكثر بكثير.

واليوم، أمشي في الشوارع ذاتها، لكنني أمشي وحيداً … وحزيناً … أمام أبوابكم التي أعرف أنّها لن تُفتَح بعد الآن.

حتى أوراق الوفيات على الجدران تغيّرت، فلم تعد تخبرنا فقط عن اسم الراحل، بل عن أسماء أولاده “المقيمين في كندا”، أو “الموجودين في السويد”، و”المهاجرين إلى ألمانيا”، وكأن موتنا أيضاً صار يُدفَن خارج البلاد.

لكننا ما زلنا نقيم كرنفالات بعناوين برّاقة عن التشبّث بأرض الأجداد والآباء … ونبني فزّاعات في مناطق أصبحت فارغة حتى من الزرع
فعذراً فيروز …

لأنكِ مهما غنّيتي: “سنرجع يوماً” … فهم لن يرجعوا.

سيعودون فقط ليبيعوا بيوتهم وأملاكهم – وهم يفعلون – ذكرياتهم … الأرصفة التي كبروا عليها…

سيعودون ليقفوا دقائق أمام أوابدنا وأسواقنا ومقاهينا، ليُشبعوا حنينهم المفاجئ، ثم يعودوا.

سيأكلون خلال زيارتهم القصيرة إلينا، ما كنّا نأكله معاً، ويلتقطون صوراً تذكارية، ثم … يعودون.

وأنا أعرف – مهما حاولنا أن نكذب بندواتنا – أنهم لن يعودوا.

وأن كنائسنا لن تراهم ثانيةً، وأن أنديتنا ومقاهينا وشوارعنا لن تمتلئ بأصواتهم، وأن مقاعدهم التي ما زالت فارغة … ستبقى فارغة.

نحن الذين بقينا، نحمل على أكتافنا كل زمنٍ جميل مضى … لكننا لا نملك شجاعة الكذب لنقول إن كل شيء سيعود كما كان.

لأنكم أنتم، الذين غادرتم، كنتم جزءاً أساسياً مما كان … وحين خرجتم … خرج جزء منّا معكم.

نعم … أبواب المسيحيين المغلقة تزداد يوماً بعد يوم …

وكل باب مغلق ليس مجرد خشب وحديد …
إنه فصلٌ جديد من حكاية مدينة تئنّ وحيدة.

اللهم اشهد… أني بلّغت.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…