زينه عبدي
في خضم الصراعات والتحولات الإقليمية المشحونة بإعادة رسم ملامح شرق أوسط جديد بما يتواءم مع خرائط نفوذ كل طرف على حدا، ظهر منتدى السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS المنعقد في مدينة دهوك الكوردستانية كملتقى لصياغة الرؤى السياسية وإعادة تشكيل التوازنات ومنبراً للحوار السياسي، مبرزاً إضاءات معمقة على موقع الكورد داخل المشهد الإقليمي المعقد.
لا يُعتَبر هذا المنتدى، الذي ضم مؤسسات دولية وسياسيين وفاعلين وأكاديميين من إقليم كوردستان والعراق وغربي كوردستان، مجرد تفصيل عابر أو حدث بروتوكولي، بل أكد وبجدارة الدور المحوري الذي يلعبه الحضور الكوردي في المنطقة داخل المعادلات السياسية والأمنية عبر تناوله الانتقال بصورة تدريجية بين الحوارات والنقاشات ليعكس واقع ومستقبل الشرق الأوسط الجديد الذي من المفترض أن يجمع لا يقصي، لبلورة صورة متكاملة لتحقيق الاستقرار والأمن. لذا يرى الكورد هذا المنتدى فضاءً لإعادة التعريف بموقعهم السياسي لصياغة خطاب ورؤية أعمق نضجاً وتموضعاً ضمن الأطر السياسية.
خشية تعزيز الحضور السياسي الكوردي العابر للحدود
ضمن هذه المساحة السياسية الواحدة التي جمعت نخب وقادة كورد من جنوب كوردستان وغربها وشمالها، ثمة ما أثار لدى عديد الدول الإقليمية مخاوفا وقلقا لافتاً كونها معتادة على التعامل مع قضية الشعب الكوردي كحالة سياسية منفردة ومنفصلة عن المشهد العام داخل حدود دولها. فالتنسيق المتكامل بين الكورد في هذا الحدث دفع بالتفكير بلا شك نحو تصور شامل وجديد لوحدة الصف الكوردي ورؤيته الكوردستانية، بل ونزع فتيل التشظي والتشرذم الذي مورس على الكورد بأبشع الاستراتيجيات التي من شأنها تقسيم الكورد في كل من سوريا والعراق وإيران وتركيا.
ينبع هذا القلق التراكمي من احتمالية تحويل هذه الفعالية إلى مشروع سياسي كوردي حقيقي وفعلي عابر للحدود سياسيا وجغرافياً، فالتقارب بين الكورد في سوريا والعراق بشكل علني وبدون غطاء خارجي بداية مبشرة للانتقال من الخطوات الدفاعية إلى مراحل ركيزتها الأساسية هي المبادرة الخلاقة التي تستند إلى خطاب سياسي موحد قادر على التموضع داخل المنصة الإقليمية للحلول، ما يفرض صياغة موازين قوى جديدة في الشرق الأوسط وتفتيت قدرة الدول التي تعتمد الملف الكوردي كأداة للمناورة السياسية.
المشهد التشاركي الشامل للكورد، المنظم بطابع دولي في هذا المنتدى وبمنأى عن إطار المظلومية المعتادة، إنما يجسد الصورة الحقيقية للكورد كفاعل سياسي بطاقات تأثيرية وتنسيقية هائلة، ما يشكل لدى البعض هاجس الخوف من التغيير الحقيقي في أصول ومعايير إدارة الشأن السياسي، وبالتالي التغيير الجذري في قواعد العمل السياسي وفقاً لتحليلهم الذي يبث الرعب في قلوبهم وعقولهم من تلك الرؤية الكوردية المنبثقة عن الرؤية الحقيقية لواقع المنطقة بشكل عام وللكورد بشكل خاص لا سيما فيما يخص بلورة الأمن والاستقرار الإقليمي.
ما قد شكل مصدر قلق وانزعاج فعلي للبعض ليس باللقاء بين القيادات الكوردية فحسب في دهوك، بل في الرسالة التي حملها هذا اللقاء: خلق بوصلة سياسية كوردية- كوردية متينة خلافاً للتاريخ المنصرم.
الخطاب السياسي الجديد
يعكس منتدى MEPS في دهوك الإرادة الفاعلة والرغبة الحقيقية للقوى الكوردية في العراق وسوريا نحو خطاب سياسي جامع للهوية الكوردية من خلال خطط استراتيجية مشتركة تدفع بالكورد نحو تفعيل تطلعاتهم التي بقيت لعقود آجلة التنفيذ.
الرسالة السياسية للمنتدى واضحة بأقصى الدرجات لما يحمله من مطالب صريحة حول الاعتراف بالكورد داخل المسارات والتوازنات السياسية المحلية والإقليمية كشريك غير قابل للمساومة، وتعزيز مبدأ الشراكة ضمن الأطر السياسية بما يضمن العدالة والمساواة. كسر المنتدى كل جسور الإقصاء التي تبلورت على مر التاريخ؛ طرح واضح للعملية الدستورية الجديدة في سوريا تكفل حقوق الجميع دون استثناء، والعمل على تشكيل أدوات وآليات تمكّن إدارة التنوع والتعددية. يحمل المنتدى بين ثناياه تغيير جذري في نوعية الخطاب الكوردي المطالب بالمشاركة في بناء مستقبل المنطقة عبر الأطر السياسية والبراغماتية.
الخوف من تطبيع الوجود السياسي
شكل حضور قيادات كوردية من غربي كوردستان في منتدى MEPS الدولي خطوة جدل حساسة ومثيرة للغضب لدى بعض الأطراف السورية التي تتخذ من الإدارة الذاتية نداً لها، ما خلق لديها خوفا من تطبيع الوجود السياسي الكوردي للإدارة الذاتية في مناطق شمال وشرق سوريا، وبالتالي تمهيد للاعتراف الضمني والقبول الفعلي بوجودها الإداري والسياسي بصورة غير رسمية.
في هذا السياق، يفسر بعض الجهات هذا النوع من التطبيع على أنه تهديد مباشر يحمل مخاطر جمة على نفسية الأمة السورية وسيادتها القادمة، حيث وبصورة أوضح خشيتهم من توليد فكرة الفيدرالية أو اللامركزية السياسية أو الحكم الذاتي وتطبيقها بما يتنافى مع قيم الدولة المركزية التي يطمحون لها كما السابق.
وفي الإطار ذاته، بات يشكل هذا المنتدى مصدر توتر بل ومدعاة للقلق الجدي ونقطة انشغال بارزة لدى تركيا بذريعة الخطر المباشر على أمنها القومي على طول الشريط الحدودي مع المناطق الكوردية في شمال شرق سوريا، هذه التوجسات تعقد المشهد السياسي القائم وتزيد من التوترات الإقليمية.
من جانب آخر، صار التطلع إلى هذه الحالة مصدر قلق لدى بعض الأطراف السورية وعلى رأسها السلطات الانتقالية، حيث ستكون السبب الرئيسي لتشكيل ظواهر سياسية موازية في مناطق سورية أخرى على حد خطاباتهم في ظل غياب الإرادة السياسية السورية. لذا يظل ملف الوجود السياسي في روجآفايي كوردستان محور جدل وذات حساسية بالنسبة لهم، مرتبط بمسارات حوارية وتفاوضية دولية شائكة متعددة الأبعاد تثير التشظي بين اللاعبين المحليين والإقليميين.
وأخيراً، من خلال قراءتي أعتقد أن منتدى MEPS الدولي في دهوك أثبت مفصليته في إلقاء الضوء على موقع الكورد ودورهم الفاعل في المعادلات السورية والإقليمية، لا بمثابة حدث سياسي هامشي. فالرسائل وردود الفعل المنبثقة عن المؤتمر بيَّنت حجم التغيرات الحالية داخل قواعد اللعبة السياسية والمخاوف المرافقة التي تعكس صورة سوريا القادمة على وجه الخصوص ومكانة الكورد فيها وما تحمله من حضور وفعالية مؤثرة. تجاهل الكورد لم يعد ضمن الخيارات الممكنة، بل بات هو الفاعل الرئيسي والصوت الأشد تنظيماً ووضوحاً ضمن أي تسوية سياسية مقبلة لضمان حقوقهم رغم خطورة الطريق، لكن ما يطمئن اليوم أن المنطقة برمتها أمام التفاف حاد في المسار السياسي لربما يكون بداية جديدة لمساحات الحوار أو الدفع نحو الانقسام من جديد. ويبقى السؤال مفتوحاً: هل سيتحول هذا المنتدى إلى منصة لبناء التفاهمات، أم أنه سيغدو ساحة جديدة للانقسام والتجاذب؟ القادم يجيب.