التقرير السياسي لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2025
شكّلت الزيارة التي قام بها رئيس السلطة الانتقالية في سوريا، السيد أحمد الشرع، إلى واشنطن في العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر منعطفاً في العلاقات السورية-الأمريكية، إذ مثلت أول زيارة لرئيس سوري إلى البيت الأبيض منذ أكثر من نصف قرن، مما منحها بُعداً تاريخياً يعكس رغبة إدارة الرئيس ترامب في إدراج سوريا ضمن دائرة حلفائها، أو على الأقل ضمان عدم عودتها إلى محور الخصوم.
سبقت هذه الزيارة خطوة دبلوماسية ملموسة تمثلت برفع اسمي الرئيس الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب من قوائم العقوبات الأمريكية، مما أضفى على الحدث بمجمله منعطفاً استراتيجياً في السياسة الأمريكية، يتبنى نهجاً تنظيمياً جديداً يهدف إلى تشجيع الشركات والمؤسسات المالية العالمية على الاستثمار في إعادة إعمار سوريا، حتى بلغ ذروة التوصيف بحسب تصريح الرئيس ترامب: “نريد أن نرى سوريا دولة ناجحة للغاية”. كما تجلّى هذا التحول في انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لهزيمة داعش، مما فتح صفحة جديدة بانضمامها إلى 89 دولة أخرى ملتزمة بمنع عودة التنظيم كخطر عالمي.
جاء هذا التحول الأمريكي- الدولي متسقاً مع قرار مجلس الأمن رقم 2799 في 6 تشرين الثاني 2025، والذي لم يكتفِ برفع أسماء مسؤولين سوريين من قوائم الإرهاب، بل وضع سوريا – ولأول مرة منذ اندلاع النزاع قبل 14 عاماً – صراحةً تحت طائلة الفصل السابع، مع إعادة التأكيد على حزمة من القرارات الدولية وعلى رأسها القرار 2254. الذي رسم خارطة طريق واضحة وجدولاً زمنياً لالتزامات دمشق، تشمل ضمان وصول المساعدات الإنسانية، ومكافحة الإرهاب، وحماية حقوق الإنسان والأقليات الدينية والعرقية، والنهوض بالعدالة الانتقالية، والقضاء على الأسلحة الكيميائية، وإقامة عملية سياسية شاملة تفسح الطريق لمشاركة ممثلي الكُرد أيضاً في إدارة الدولة.
أما التنافس الإقليمي الأبرز، فما زال يتمثل اليوم بالتنافس التركي-الإسرائيلي (المحتلتين لأراضي سورية واسعة) للهيمنة على مقدرات سوريا، حيث تواصل إسرائيل انتهاكاتها المتعددة للسيادة السورية واستهداف مواقع تعتبرها تهديداً لأمنها، بما فيها مواقع تركية، في محاولة لإعادة رسم خرائط النفوذ. في المقابل، تسعى أنقرة عبر تقارب محدود مع روسيا إلى خلق توازن استراتيجي يخفف الضغط الأمريكي ويضمن لها دوراً محورياً في الترتيبات السياسية المقبلة، وتضمن هيمنتها على الملف السوري، وهو دور تسعى الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة لتفهمه، كإشراك وزير خارجيتها في لقاء الشرع مع ترامب في واشنطن.
على الصعيد المحلي، وتوازياً مع هذه المناخات الدبلوماسية الواعدة، شهدت الساحة السورية سلسلة من التحولات السياسية تمثلت في التقدم النسبي للمفاوضات بين السلطة الانتقالية وقوات سوريا الديمقراطية حول تنفيذ “اتفاقية العاشر من آذار”، وسط توترات ناجمة عن تحديات أمنية متكررة. علماً أن التوجهات الإقليمية قد ساهمت في رسم مسار هذه المفاوضات؛ اذ سعت تركيا إلى فرض أجندتها عبر الضغط على مناطق الإدارة الذاتية، بينما دعمت الولايات المتحدة والدول الأوروبية مسار التفاوض مع قوات “سوريا الديمقراطية”. ويعكس التوافق الأمريكي-الأوروبي حول مكافحة الإرهاب والانسجام مع قرارات مجلس الأمن استمرار وترجيح تأثير الإرادة الدولية في صياغة مستقبل الحل السياسي.
لكنّ مناخ الانفراج النسبي هذا لا يخلو من التوترات، حيث كشفت الأحداث اللاحقة استهداف بعض نقاط التماس لقوات سوريا الديموقراطية، من قبل القوات الحكومية. وكذلك تصاعد الانتهاكات في منطقة عفرين، واستمرار الخطاب الإعلامي الحكومي التحريضي ضد الكُرد، الى جانب اعتقال العشرات من الشباب الكُردي على حواجز تديرها فصائل تابعة لوزارة الدفاع.
في ظل هذه المناخات النشطة سياسياً اندرجت عدالة القضية الكردية ضمن التوصيات وخطاب معظم القوى الدولية في الاجتماع الأخير لمجلس الأمن. لتؤكد من جديد أن القضية الكُردية تظل أهم الاختبارات الوطنية في سوريا الجديدة، وتمثل معياراً لمدى التزام القوى السياسية – سواء في المعارضة أو السلطة الانتقالية – بمبادئ الديمقراطية التشاركية. فبينما تغيب هذه القضية عن برامج معظم القوى السياسية خارج السلطة، تواصل السلطة الانتقالية اتباع مقاربات للقفز فوق المطالب الكردية المشروعة، من خلال الدفع بواجهات شكلية وشخصيات لا تمثل المجتمع الكردي فعلياً، في إعادة إنتاج لأساليب إقصائية موروثة. حيث لا يزال ملف عيد نوروز مثالاً صارخاً على هذا النهج؛ إذ ظلت العقلية السلطوية تنظر طوال عقود من الزمن إليه كعيد “للأم” وفق التوصيف البعثي، رغم خروج أول مظاهرة كردية للمطالبة بالاعتراف به عيداً قومياً أمام القصر الجمهوري في ثمانينيات القرن الماضي، والتي ارتقى فيها الشهيد سليمان آدي. واليوم تستمر السلطة في تبرير عدم إدراج يوم نوروز ضمن العطل الرسمية بذريعة “غياب المشاركة”، في حين بقيت سياسات التهميش والإقصاء هي النهج المتبع. بينما تُعقد الآمال على القوى والشخصيات الوطنية السورية الديمقراطية التي تؤمن بأن القضية الكردية هي قضية وطنية، وأن الكُرد شركاء أصلاء في صياغة مستقبل سوريا.
في مواجهة هذا التعنت السلطوي تزداد أهمية الحفاظ على وحدة الموقف والصف الكردي، عبر الالتزام بمخرجات مؤتمر نيسان الذي انعقد قبل سبعة أشهر، وتم بموجبه تسمية الوفد الكردي المفاوض. إلا أن هذا الوفد لا يزال ينتظر تفعيلاً جاداً لدوره السياسي والتفاوضي، وتوسيع دائرة تمثيله، وصولاً إلى تشكيل مرجعية كردية تتمتع بالمشروعية والتمثيل الواسع، لتكون قادرة على تحقيق نقلة نوعية تنظيمية وسياسية تواكب المتغيرات المتسارعة، وتلبي المطالب القومية الملحة، وتؤسس لثقافة وحدوية تحالفية راسخة. ومن دلالات استمرار المناخات الإيجابية التي أنتجت مؤتمر نيسان، مشاركة الجنرال مظلوم عبدي في منتدى الجامعة الأمريكية للسلام في دهوك، ولقاءاته بقيادات الإقليم. وبصرف النظر عن أن للمنتدى صبغة علمية – إعلامية، عقدت في ربوع جامعة، لكن، وبكل الأحوال، كان من المستحسن استضافة كامل أعضاء الوفد الكردي المفاوض، وعدم الاقتصار على شخصيات وجهات حزبية محددة.
بعد مرور حوالي سنة على سقوط نظام الاستبداد، لا تزال سوريا أمام مفترق طرق، وفرصة تاريخية، لفتح مسار للخروج من نفق الصراع الطويل، لكنها فرصة محفوفة بتحديات جسام. حيث تتداخل الوعود الدولية مع المناورات الإقليمية والترتيبات الأمنية الهشة، في اختبار حقيقي لإرادة السلام في مواجهة نزعة الحرب.
23 تشرين الثاني/نوفمبر 2025
اللجنة السياسية
لحزب الوحدة الديمقراطي الكُردي في سوريا