عنايت ديكو
تبدو دهوك اليوم وكأنها تعلن ولادة دور جديد لها في المعادلة الإقليمية. المدينة التي طالما وُصفت بأنها هادئة ومنكفئة على جغرافيتها الجبلية، بدأت تُشيّد لنفسها موقعاً سياسياً وثقافياً يتجاوز حدودها التقليدية. فمن خلال نهضتها العمرانية والتنظيمية، وتحولها إلى نقطة جذب للنخب السياسية والفكرية والثقافية، باتت دهوك تمثّل ـ بشكل متزايد ـ نموذجاً مصغراً للشرق الأوسط الذي يُعاد تشكيله.
في هذا السياق، جاء منتدى MEPS للأمن والسلام ليُحدث ارتجاجاً مدروساً في بنية التفكير السياسي الإقليمي. فالمنتدى لم يكن مجرد تجمع للنقاش، بل منصة لإعادة تعريف الأدوار وتوجيه الرسائل، خصوصاً في لحظةٍ يشهد فيها الشرق الأوسط اضطراباً غير مسبوق على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن الواضح أن المنتدى أسّس لنبرة سياسية كوردستانية أكثر ثقة وأكثر وضوحاً في طرح رؤيتها.
– النشيد القومي الكوردي الذي صدح في دهوك لم يكن مجرد افتتاحية بروتوكولية؛ بل حمل رمزاً سياسياً أرادت دهوك من خلاله القول إن روح الاستفتاء لا تزال حيّة، وإن الهوية الكوردستانية ما تزال قادرة على إنتاج مشروعها في كل مرة تُمنح فيها مساحة آمنة.
– وعلى امتداد أيام المنتدى، بدا واضحاً أن هولير ما تزال تمسك بمفاتيح اللحظة الكوردية. فكل من يريد التحدث عن حلّ عادل للقضية الكوردية عليه أن يبدأ من أربيل، وكل من يتطلع إلى عراق مستقر وحكم رشيد، عليه أن يدرك أن الطريق يبدأ من ذات العنوان. وهذا الإدراك لم يعد مطلباً كوردياً فقط، بل بات قناعة لدى فاعلين سياسيين إقليميين وعالميين.
– أما على الضفة السورية، فقد حمل المنتدى رسائل لا تخطئها العين: دعم ثابت لمطالب الكورد في سوريا، رؤية واضحة للامركزية كمدخل لإعادة تأسيس الدولة السورية، وتأكيد على ضرورة تمكين الكورد من لعب دورهم الطبيعي في صياغة مستقبل البلاد. كما نجح المنتدى في دفع الملف السوري الكوردي إلى واجهة النقاش الإقليمي، وبخاصة عندما استضاف أحمد داوود أوغلو، أحد أبرز المهندسين السابقين للسياسات التركية. وتصريحاته حول عدم صوابية حدود سايكس ـ بيكو، وتكراره كلمة “كوردستان” في أكثر من موضع، كانت مؤشراً على تغيّر أعمق من مجرد مجاملات سياسية.
من جهة أخرى، بدا أن المنتدى يسعى لتفكيك عقدة عدم الاعتراف التي لازمت الشخصية الكوردية لعقود طويلة. فالكورد في هذا المنبر ظهروا كقوة قادرة على الإسهام في أمن المنطقة واستقرارها، وكشعب يستطيع إدارة مناطقه وحماية خصوصيته. وقد بدا جلياً أن الكورد في سوريا تحديداً باتوا في موقع يسمح لهم بفرض معادلة جديدة، تستند إلى توازنات القوى وتطورات الميدان.
كذلك، عمل المنتدى على الدفع باتجاه إقامة كوريدور حيوي بين باشور وروژآڤا، بوصفه ضرورة استراتيجية في مواجهة الإرهاب، وخاصة تنظيم داعش. كما حاول تخفيف المخاوف التركية، عبر الإشارة إلى أن استقرار المناطق الكوردية السورية هو عامل استقرار لتركيا ذاتها، لا تهديد لها.
– ولم يغب عن المنتدى أيضاً توجيه رسالة إلى دمشق: سوريا ما بعد الحرب لن تشبه سوريا ما قبلها، مهما بدت قبضة المركز قوية.
أما الترحيب اللافت بالقائد مظلوم عبدي، فقد حمل دلالات سياسية كبيرة تتجاوز البروتوكول، وتشير إلى شراكة قومية لا يمكن تجاهلها.
وفي الشأن التركي، حمل المنتدى تحدياً هادئاً لكنه واضح: عبد الله أوجلان ليس إرهابياً، وهذه الحقيقة باتت تجد صداها حتى داخل أروقة الدولة التركية. الحديث المستمر عن زيارة دولت بهجلي لإيمرالي، وإن كان غامضاً في توقيته، يكشف حجم التغير في البنية الفكرية التي كانت تقود التوصيفات الرسمية لقضية الكورد في تركيا.
في النهاية، أثبت منتدى دهوك أن الكورد لم يعودوا مجرد “فاعل جانبي” في معادلات الشرق الأوسط، بل طرفاً قادراً على فرض رؤيته، وصناعة أجندته، وإعادة تعريف دوره على المستويين الإقليمي والدولي. لقد تحوّلت دهوك بالفعل إلى ما يشبه “داڤوس الشرق”، مدينة تُصنع فيها السياسات، وتُعاد فيها صياغة الأسئلة الكبرى المتعلقة بمستقبل المنطقة… وبمستقبل كوردستان نفسها.