صبري رسول
لايستطيع المثقفون العرب الخروج من معطف الفكر البعثي الإلغائي والانطلاق إلى آفاق العيش المشترك مع الآخرين المختلف معهم قومياً ودينياً.
الفكر العروبوي الذي يختزل في ثناياه التعالي والأفضلية من الآخرين، وينسب كلّ الفضائل إلى العرب والمثالب إلى الآخرين. يمجّد تاريخ العرب بكلّ ما له وفيه من حروب ونزاعات وحقب سوداء، ويُقزِّم حضاراتِ الشعوب الموغّلة في سحيق الزمان، هذا الفكر لم يجلب للعرب إلا ويلات الدمار والهلاك، ورغم ذلك لا ينظر المفكّر العربي إلى هذا التاريخ نظرة نقدية تحلّل الوقائع فيه لمعرفة الأسباب التي أوصلتهم إلى الحضيض، وقراءة النتائج التي يمكن الاستفادة منها.
المثقف العربي لا يخرج من هذا الفكر الضيق، بل يتباهى به وبهذا التاريخ الدموي الطويل، والطامة الكبرى أنّ هذه النظرة لا تسيء للعرب فقط، بل تُلحق الأذى بالشعوب الأخرى المتعايشة معهم. والكرد أكثر من غيرهم عانوا الأمرين على أيدي هؤلاء المثقفين الذي ينظّرون بلاغياً في الفكر والشعر والسياسة، في أبراجٍ ليست إلا وهماً في مخيلة كتّاب تاريخهم، دافعوا بشكلٍ مستميت عن أنظمةٍ قمعية اغتصبت حريتهم وأعراضهم قبل أن تدافع عنهم ولو بطلقة واحدة ضدّ عدوٍّ أقلّ خطراً على مجتمعاتهم وبلادهم من الأعداء الذين أبدعوها وترعرعوا في كنفها (الجهل، الفقر، المرض، الأمية) هذه الأمراض المزمنة كفيلة بإنتاج أجيالٍ وحشية.
ازدادت في الفترات الأخيرة وتيرة الهجوم على الشعب الكردي قادها سياسيون وكتاب وإعلامييون، اتسمت بأوصاف جارحة للوجود الكردي، ولثقافتهم، وتاريخهم، ويتجلّى هذا الهجوم الذي لا يمكن تبريره في تصريحات قياداتٍ من المعارضة السورية، وكتابٍ لهم باعٌ طويل في الفكر اليساري المنفتح. هؤلاء لم يطرحوا القضية الكردية كقضية سياسية يجب حلّها في إطار الدولة السورية، بل أطلقوا نعوتاً سوداء بألفاظٍ مخجلة، يخلق شعوراً لدى الكرد بأنّهم لا يستطيعون العيش مع هذه العقلية المتشربة من ثقافة إلغاء الآخر.
وتدلّ هذه المواقف المؤسفة على مدى الانحطاط الفكري لدى غالبية المثقفين العرب، وعلى مدى ضيق الأفق لديهم في معرفة أهمية التعايش وقبول الآخر المختلف قومياً ودينياً. وهنا يمكن توجيه الكلام للمثقفين العرب: عليهم التخلي عن الصفات التي أودت بهم إلى هذه المستنقعات وأوصلت المجتمعات العربية إلى التفكك، والانهيار الاقتصادي، والفساد السياسي، والانحلال الأخلاقي، حتى باتت عبئاً على المجتمعات البشرية الأخرى التي تنشغل بها، أصبحت مجتمعاً استهلاكياً وغير منتج، يستغل الفكر المتطرف ضعفَ نسيجه الاجتماعي، وحالة الفقر والجهل لنشر الجريمة المنظمة فيها، واستغلال أفراده لصالح الجماعات الإرهابية.
الفكر المتطرف انتشر في وسط المجتمع العربي كالنّار في الهشيم، وبدلا أن يقف المثقف العربي لصدّ هذا الفكر الإرهابي الذي انجذب إليه المواطن، أدار ظهره لِما يحدث، وتوجَّهَ إلى جمع النعوت المُسيئة من القواميس لتوجيهها إلى الكُرد، فلم يتردد كثير من الشخصيات السياسية في قيادة الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة في مهاجمة الكرد، وهنا نسجّل عليهم موقفاً أخلاقياً، قد نرى من الطبيعي أن ينتقد مثقفٌ عربي موقفاً سياسياً لحزب كردي، سواء قبل الثورة السورية أو أثناءها، أما أنْ يأتِ المثقف العربي ليصف الشعب الكُردي بنعوتٍ غريبة، ويعيّر أصله ولغته وثقافته، فهذا محل استهجان لدى الشعب الكردي ونخبه السياسة والثقافية، ويدلّ ذلك على الانحطاط الفكري والأخلاقي لدى ذلك المثقف العربي الذي مازال يعيش في كهوف (تورا بورا) الثقافية، وعاجز عن التحرّر من الماضي العتيد، وأقصى مخيلته أنّ آفاق الكون تنتهي عند حدود مضاربه، وأنّ الله خلق البشرية عرباً، فانحرف بعض الجماعات جغرافياً، وانحرف معه لسانهم، واكتسبوا عاداتٍ أخرى، لكن أصولهم ترجع إلى بني ربيعة وبني مضر.
المثقف العربي إذا بقي يجترّ من الثقافة الشوفينية التي يعتاش عليها نظامه السياسي وإذا لم يقم بقراءة التاريخ نقديّاً كفعلٍ حركي لتدوين الأحداث كما هي وليس كما يتخيله أو يريده، سيجلب مزيداً من الويلات والكوارث على مجتمعه وعلى الجوار.