تورين شامدين
في كل حضارة إنسانية نشأت وتطورت، كانت المرأة دائما في قلب المعادلة، لا على هامشها. فحيثما أُكرمت المرأة، ازدهرت القيم الإنسانية، وتقدم المجتمع بثقة نحو العدالة والاستقرار. وحيثما همشت، انكمشت التنمية وتراجعت منظومة القيم. إن الحديث عن المرأة حديث عن ميزان الحياة ذاته، عن توازن القوى بين العقل والعاطفة، بين الإنتاج والرعاية، بين الفرد والمجموع.
المرأة، في جوهرها، صانعة الجسور. فهي التي توحد بين المختلفين، وتربط بين الأجيال، وتحول الفوارق إلى فرص تفاعل وبناء. وعندما تكرم المرأة وتنمى قدراتها، يتحول التنوع الاجتماعي من حالة تباين إلى مصدر قوة، وتتحول الحقوق من شعارات معلقة إلى واقع ملموس يعاش في تفاصيل الحياة اليومية.
من الناحية الاجتماعية، تعتبر المرأة حجر الأساس في بناء منظومة القيم والهوية. فهي المدرسة الأولى، والمربية، والناقلة للثقافة، والحارسة غير المعلنة للأخلاق الجماعية. والمجتمع الذي يحترم المرأة، يحترم ذاته من خلالها، لأنه يدرك أن بناء الإنسان يبدأ من حضن الأم، ومن فكر المرأة التي تزرع في الأجيال معنى الانتماء والمسؤولية.
إحصاءات الأمم المتحدة تشير إلى أن كل سنة إضافية من تعليم الفتيات تقلل من معدلات الفقر بنسبة تقارب 10%، وترفع من مستوى التعليم والصحة في الأسرة بشكل مباشر. هذا مؤشرات على أن تمكين المرأة ليس عملا خيريا، بل سياسة اجتماعية رشيدة تعيد توزيع الوعي والفرص داخل المجتمع.
الأهم من الأرقام، هو أثر احترام المرأة في النسيج المجتمعي. فحين تكون المرأة فاعلة ومكرمة، يتحول المجتمع إلى مساحة من التوازن النفسي والتواصل الإنساني. وعندما تهمش، تتسع الفجوات الطبقية والفكرية، ويتحول التنوع إلى انقسام. إذ لا يمكن الحديث عن مجتمع متماسك ما لم تكن المرأة فيه حاضرة بكرامتها وقرارها وصوتها.
سياسيا، وجود المرأة في مواقع القرار لم يعد مسألة رمزية، بل ضرورة بنيوية. فالمرأة، حين تشارك في صياغة القوانين والسياسات، تدخل في المعادلة بعدا أخلاقيا وإنسانيا غالبا ما يغيب عن السياسات القائمة على الصراع والمصالح الضيقة.
في الدول التي تبنت مشاركة النساء في المؤسسات التشريعية والتنفيذية – مثل الدول الإسكندنافية – لوحظ ارتفاع في مستويات الشفافية، وتراجع في معدلات الفساد، وتحسن في مؤشرات العدالة الاجتماعية.
النرويج، مثلا، التي خصصت نسبا إلزامية لتمثيل المرأة في المجالس الإدارية والسياسية، شهدت ارتفاعا في أداء القطاعات الحكومية بنسبة فاقت 20% خلال عقد واحد.
إذن، مشاركة المرأة في القرار ليست قضية مساواة شكلية، بل مقياس لقدرة النظام السياسي على استيعاب كل طاقاته البشرية. وعندما يستبعد نصف المجتمع من المساهمة في القرار، تصاب الدولة بالشلل الفكري والأخلاقي، وتفقد توازنها الداخلي.
اقتصاديا، تمكين المرأة هو أحد أهم مفاتيح التنمية المستدامة. فبحسب البنك الدولي، فإن رفع نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل بنسبة 25% يمكن أن يزيد الناتج المحلي في بعض الدول النامية بنسبة تصل إلى 30%.
المرأة ليست مستهلكة فقط، بل منتجة وصانعة للثروة. إنها تمثل قوة عاملة مؤهلة، وصاحبة مبادرات اقتصادية صغيرة ومتوسطة تحرك الأسواق المحلية وتدعم الاستقرار المالي للأسرة. وعندما تعطى المرأة القدرة على المساهمة في الاقتصاد الوطني، تصبح هي محور التغيير الحقيقي في إعادة توزيع الثروة والمعرفة والفرص.
ثقافيا، تمثل المرأة ذاكرة الأمة وضميرها من خلالها تروى الحكاية، ويحفظ التراث، وتغرس قيم الجمال والرحمة والحرية. المرأة المثقفة تسهم في صناعة خطاب إنساني يوازن بين الحداثة والأصالة، بين العقل والعاطفة، وتمنح المجتمع تلك “القوة الناعمة” التي تصنع حضوره وتأثيره.
كل مجتمع احتفى بثقافة المرأة، أنتج أدبا راقيا، وفنا عميقا، وحوارا عاما أكثر اتزانا. فالمرأة ليست فقط متلقية للثقافة، بل منتجة لها، وصاحبة قدرة على صياغة الوعي العام بلغة مختلفة أكثر صدقا واتصالا بالحياة.
مكانة المرأة في أي مجتمع هي المؤشر الأدق على مدى نضج ذلك المجتمع أخلاقيا وحضاريا. كلما اقترب المجتمع من العدالة والمساواة والكرامة، كان أكثر قربا من جوهر الإنسانية ذاتها. والمرأة، حين تكرم وتنمى، لا ترفع نفسها فحسب، بل ترفع من حولها، وتحول الحقوق الفردية إلى منظومة قيمية جماعية تترجم في السلوك اليومي والخيارات العامة.
في نهاية المطاف، المرأة ليست مجرد صوت يسمع أو حق يكتسب، بل هي روح المجتمع التي تتنفس من قلبه، وجسر الضوء الذي يربط بين أحلامنا ومستقبلنا. هي التي تحول كل ألم إلى صبر، وكل حلم إلى واقع، وكل اختلاف إلى وحدة. حين نحتفي بها، لا نحتفي بشخص واحد، بل نحتفي بالحياة نفسها، بالقيم التي تنير الطريق، وبالإنسانية التي تجعل لكل مجتمع وجها مشرقا يعكس تاريخه ومستقبله معا. المرأة ليست مجرد جزء من نسيج المجتمع، بل نبضه، ووعيه، وقوة حضوره في العالم.
كل مجتمع يدرك هذه الحقيقة، يكتب تاريخه بأيد من عدل وازدهار وكرامة إنسانية خالدة، ويؤسس لمستقبل يحتفى فيه بالإنسانية على اختلافاتها، حيث تتحول التحديات إلى جسور، والحقوق إلى واقع، والقيم إلى حياة تعاش.