المغالاة في إشهار الذات بين النرجسية والدوبامين

فرهاد دريعي

 لم تعد هذه الظاهرة مجرد سلوك عرضي، بل تحولت إلى نمط حياة يمزج بين الرغبة الطبيعية في التقدير والحاجة المَرضية المستمرة للإشهار . 

فهل هي مجرد عقدة عابرة ناتجة عن ضغوطات المجتمع أم اضطراب نفسي عميق يهدد الصحة العقلية والعلاقات الإنسانية؟.

وبالعودة إلى الخلف فإننا نجد هذه الظاهرة ليست حديثة العهد إنما  بدأت من الأسطورة إلى الإنستغرام

حيث تبدأ قصة المغالاة في حب الذات مع ” نركيسوس” الشاب اليوناني الذي غرق في انعكاس صورته في بركة ماء حتى الموت فكانت النرجسية رمزاً أسطورياً للحب المدمر للذات .

ما دعاني لكتابة هذا المقال هو مشاهدتي لعشرات الاصدقاء والصديقات ومثله من غير الأصدقاء والصديقات الذين يعتقدون أنهم وجدوا ضالتهم في وسائل التواصل الإجتماعي فباتوا يستخدمونها بشكل مفرط حتى باتت نفوسهم أسيرة للشاشة ،ولعل الفيسبوك هو أقل هذه الوسائل مقارنة بالانستغرام والتيك توك . 

حيث تتجسد في بعض اولئك نشر عشرات الصور يومياً مع عشرات التعليقات في غلو فاحش يسمح للبصير قراءة مستواهم الهش بغض النظر عما يدعونه من ثقافة أو علم أو معرفة . 

في الماضي كانت المغالاة تقتصر على الطبقات العليا أو الشخصيات العامة ، أما اليوم فقد دمقرطتها وسائل التواصل الاجتماعي حيث أصبح كل فرد  نجماً في عالمه الافتراضي .

 وخوارزميات أنستغرام وتيك توك تكافئ المحتوى المثير  كالصور المعدلة أو القصص المبالغة فيها أو الإنجازات المزيفة ، مما يخلق حلقة إدمانية تعتمد على الدوبامين الناتج عن عدد الإعجابات الكثيرة  .

فالدراسات تشير الى ان الذين يكثرون من المنشورات والصور التي يهدفون فيها الى إشهار أنفسهم يظهرون ارتفاعاً كبيراً  في نسبة النرجسية مقارنةبغيرهم. 

كما أن ظاهرة الخوف من تفويت الفرص تدفع الأفراد للمبالغة في تقديم حياتهم بهيئة مثالية خوفاً من أن يَنظر إليهم المجتمع كـأشخاص عاديين.

ولا شك إن الثقافة الإستهلاكية تلعب دوراً محورياً  في ذلك أيضاً فشعار “أنت ما تملك” يربط القيمة الذاتية بالمظهر الخارجي ، أو كما يقولونها بالعامية قيمتك بقدر قيمة ما عندك .

لكن ليس كل من يبالغ في تقديم ذاته مريض نفسياً، فالتمييز بين السلوك الطبيعي والعقدة النفسية يعتمد على شدة التكرار والمبالغة في الإشهار  كرد فعل على إنتقاد أو أزمة هوية مثلاً وهذه من صفات الشخصية المضطربة التي تعودت على الكذب المزمن بدواعي التفاخر  بانجازات وهمية و بدوافع الغيرة المَرضَية أو الحسد أو استغلال الآخرين .

هذا الاضطراب في الشخصية النرجسية يوهم صاحبها بشعور مبالغ فيه بالعظمة في الخيال أو السلوك ، كانشغاله بأوهام النجاح غير المحدود أو الجمال( وبذكر الجمال نلاحظة الاهتمام المفرط وقضاء أوقاتٍ طويلة أمام المرآة او أمام الشاشة لتعديل الصور وتجربة الفلاتر ، من الإناث أكثر من الذكور  ولو بفارق بسيط ) اعتقاداً منه بأنه خاص ولا يُفهم إلا من قبل أشخاص خاصّين. ولهذا فهو في حاجة دائمة  للإعجاب به ليشعر بالإستحقاق كتوقّع معاملة خاصة من الآخرين  أو حتى الغيرة من الآخرين و الاعتقاد بأنهم يغارون منه .

لكن ليس كل من ينشر صوراً معدلة أو يتباهى هو نرجسي فالتشخيص يتطلب تأثيراً سلبياً مستمراً على الحياة، وديمومة في ممارسة السلوك المتعجرف  وقد تلعب العوامل البيولوجية أحياناً دوراً في خلل نظام الدوبامين أيضاً .

وكمثال، فإن الإعجابات تُفعّل مراكز المكافأة في الدماغ مما يخلق إدماناً مشابهًا للمخدرات.

وللتعريف بالدوبامين : هو هرمون السعادة الذي يطلقه الدماغ من مركز المتعة بعد كل إنجاز يقوم به الشخص المغالي ويحصل بنتيجته على كثير من الثناءات أو بعد مشاهدة الكثير من اللايكات على منشورات او صور  قام بنشرها او مشاركتها، أو يستقبل العبارات التي تثير فيه رغبة التميّز وربما العظمة ، فيقرأ ردودا من قبيل : (يا إلهي .. ما كل هذا الإبداع) أو (واو ..أنا لم أقرأ أو لم أشاهد مثل هذا  في حياتي أبداً إنه في منتهى الروعة)  أو (عظييييم ..أيها الشاعر  أو الفنان الشهير الكبير الـ الـ  ) .. الخ ، وكذلك  ردود الآخرين على صوره / صورها . ( عين الله تحرسكي ، ملكة جمال بحق وحقيقي)  ، ( قرباني من وين جبتي كل هالحلا ) أو ( أمّورة أمّورة ، دقو ع الخشب وصلو ع النبي ) وما إلى ذلك من عبارات الإستحسان المحكي والمبالغ ، وبنتيجتهِ يطلق الدماغ مقداراً معيناً من هرمون الدوبامين الذي يمنح النفس الشعور بالمتعة أو الخدر اللذيذ يعادل جرعة مكافئة من الكوكايين .

ومرة بعد مرة  يجد نفسه أمام حاجتهِ إلى مزيد من الثناء أو المديح أو لايكات الإعجاب لأنه بفعل الممارسة المستمرة وصل إلى مرحلة الإدمان والدماغ بات يطلب من صاحبه المزيد من أسباب التباهي والتفاخر حتى يطلق المزيد  من الدوبامين لتلبية حاجة الخلايا للوصول إلى النشوة . 

وهنا المرحلة الأسوأ  ..

إنه سيشرب القهوة أكثر ، يحتار ماذا سينشر غدا ، أو يقول لنفسه : ماذا لو نشرت ولم أحصل على الكثير من الإعجابات ، ثم يتتبع الإعجابات كل عشر دقائق وقد يصاب بالإكتئاب و يعمد إلى إجراء التعديلات على صوره/ صورها  مراتٍ عديدة قبل نشرها وغالباً يعمد  إلى إدمان الكذب أيضاً حتى يظهر للآخرين بأنه الأفضل أو الأجمل ويختلق قصصاً عن السفر أو الثراء أو الإنجازات وهذه كلها أعراض سلوكية تعكس الوجه المظلم للإشهار .

إن المغالاة في تقديم الذات بشكل متكرر ليست موضة عابرة، بل صرخة نقصٍ مدفونٍ تحت طبقات الفلاتر ، والحل لا يكمن في حذف وسائل التواصل (فهي مجرد أداة أو أدوات) ، بل في إعادة برمجة العقل بحيث يتحول من البحث عن الإعجاب الخارجي إلى بناء القيمة الداخلية : “فالإنسان الذي يحتاج إلى مرآة ليرى قيمته، سيظل عبداً لانعكاسه” كما يقول كارل يونغ والأجدر بنا أن ننظر الى داخلنا لا الى الشاشة .

أنا لا أشخّص بل أدعو  للتأمل في مخاطر دور الدوبامين في الإدمان من المتعة العابرة إلى التبعية المدمرة ، وهنا الضرر واضح وكبير بسبب تغيّرات في نظام المكافأة في الدماغ والدوبامين هو اللاعب الرئيس والوسيط معاً.

وإذا أسلمنا أن جميع أنواع الأدمان خطيرة وذات نتائج مدمرة فإن الإدمان على السوشيال ميديا أخطرها على الإطلاق لأنه متكرر وفوري ، بخلاف الإدمان على الكحول أو الإباحية أو  الأقراص والحقن المخدرة او استنشاق المذيبات المتطايرة أو لعب القمار والتي كلها قد تحتاج  زمناً يطول أو يقصر حتى ينطلق الدوبامين .

 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…